علوم الآلة بين الصنعة والاستفادة
بسم الله الرحمن الرحيم علوم الآلة بين الصنعة والاستفادة ١- من المعلوم بداهةً أن هناك علومًا يُحتاج إليها في تعلُّم الدين والحق. ٢- مثل: اللسان العربي، وأصول الفقه (وحسبك فيه ذكر "الرسالة" للإمام الشافعي)، وأصول الحديث (وما يتبعه من علم الرجال والعلل). ٣- القرآن حِفظُهُ وكتابته بتمام ألفاظه، قد جُمع في المصحف في زمن الخلافة الراشدة. ٤- ثم استُمر في خدمته خطًّا، ولفظًا، ووقفًا، ورسمًا، وأداءً ما هو معلوم منتشر. ٥- وحديث النبي ﷺ قد ابتدأت كتابته وتدوينه زمن النبوة، ثم أُكملت بعد ذلك، واجتُهد في روايته حتى اتسعت الأسانيد، ووُضعت الجوامع، والمصنفات، والمسانيد، وأحوال وصفات الرجال الناقلين له. ٦- وأمّا العربية فرُوِيَت ألفاظها، وجُمعت، وفُسِّر منها ما يتعلق بالوحي وغيره، ثم: أ- وُضع علم قانونها ونظامها، المعروف بالنحو، بما يضبط نطق أصوات أواخر الكلمات في تراكيبها المفيدة، وبما يحصل به المنفعة من اختلاف دلالة المعاني باختلاف موقع اللفظ؛ كالفاعل والمفعول مثلًا. ب- وأما تسلسل بناء الحروف في داخل الكلمة نفسها، وكيف تركبت، وما هي موازين ذلك، ودلالة ذلك على المعاني؛ كاسم التفضيل والتصغير، وصيَغ المبالغة، وغير ذلك مما يعرف بعلم الصرف. جـ- ثم مسالك الفهاهة والفصاحة والبلاغة، وما يُحتج به من ديوان العرب، والتفقه في محاسن كلمات البُلَغاء ومجاري تفنن الفُصَحاء في علم الأدب، واستنباط قوانين جَودة الحديث، وما ينبغي من حسن تركيبه ودلالاته، مما يشمله علم البلاغة في المعاني والبيان والبديع؛ فحدّث عن ذلك فيما صُنِّف وكُتب بلا حرج. ٧- ثم درج المتفقهون في الدين وطلّاب العلم الشرعي على أن يأخذوا من هذه العلوم شأوهم ليعلو بالفهم شأنهم؛ وصولًا فيما يُفترض إلى غاية ذلك من علم الوحي والأثر. ٨- غير أنّ كثرة التصانيف، وتنوُّع الأساليب، وكثرة الاصطلاحات -من غير حاجة-، ودخول المنطق على بناء مجموع العلوم، والتأثر بمدارس اليونان والإغريق وبحوثهم في فلسفة الكلام ودلالاته والشعر وصفته، وتعدد مدارس التناول بما بني على التفرُّق الذي حصل في الدين بعد الصحابة رضوان الله عليهم من البدع والأقوال وكثرتها؛ جعل هذه العلوم تبعد عن أن تحقق الأهداف والمقاصد التي من أجلها وُضعت، فصارت متضخمة متعسِّرة، لا يتحقق بها كونها آلة وصولٍ للعلم المقصود لذاته من الوحي والأثر. ٩- فصار الرجل الجلد المثابر ينفق من وقته واهتمامه الكثير ليلين له اتقان هذه العلوم الآلية، ويحتاج إلى استمرار تدريسها حتى يحافظ على إتقان استحضاره لها ومفردات مسائلها وأمثلتها، فإذا وضعته في محكٍّ خارج ما اعتاده وجدتَ كثيرًا منهم يتلكأ. ١٠- لا أعتقد أن أحدًا منصفًا يجادلني فيما تقدم، ولستُ بصدد بيان استثمار أهل البدع والأهواء وفِرَق الضلال لهذه العلوم الآلية والمذاهب لتُستعمل في نصرة الباطل، وتبكيت المسلم عن اتباع الحق الواضح، وإقامتها مقام زخرف القول الذي عابه الله وذمَّه وقال فيه: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾، وجعل وفرض شروطًا تحول بين المسلم والانتفاع بالوحي. وحسبك في هذا الأمر مراجعة سريعة لمجادلة ابن دحلان المبتدع للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وإلزامه بما لا يلزمه من الاصطلاحات والبحوث. ولست هنا بصدد تحرير هذا الاستغلال والمتاجرة. ١١- إنما بعض المقصود هنا: أن هذه العلوم صارت كأنها صنعة من الصنائع ومهنة من المهن، تعسِّر ولا تيسِّر، وتحول بين المسلم المريد للتفقه وبين الوحي والأثر. وإن كان الأجر والثواب مرجوًّا لكل ذي علمٍ اجتهد في النصح للإسلام والمسلمين، وحصل بسببه فوائد أو حسن إشارة لحقٍّ وخدمة له، قدرها الله بحكمته لصيانة دينه وشريعته. ١٢- إنما المراد هنا: استثارة همم أهل العلم وعزائمهم، لا سيما متبعي الصحابة من أهل السنة، الذين قال فيهم النبي ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»، وقال فيهم ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». فأهل العلم المحتسبين يجب عليهم شرعًا اليوم: ١٣- فما انتهت إليه العلوم الآلية من الترف والصلف؛ ترف استعمال علوم الآلة كصناعة ووسيلة إبهار وتشغيب لنصرة بدعة أو شخصية، وصلفٌ من التعسير الذي يخالف مقصود العلم من التيسير. ١٤- ولنتذكر جيّدًا ونعقل جيّدًا ونعلم بيقين أن الله عز وجل قد حذرنا من مسالك أهل الكتاب من قبلنا فيما صنعوه بدينهم، وفيما كسوا به أحبارهم ورهبانهم من الحقوق والسِّمات، حتى طفحت كهنوتيتهم وبابويتهم إلى المقام الذي قال فيه الله عز وجل: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فصار لا يقرأ الكتاب المقدَّس بالآرامية والسريانية إلى اللاتينية إلا من تجلبب بثوب الكهنوت، وما على سائر الناس في دينهم إلا الرجوع إليهم لينالوا ما يدلون به إليهم مع الصلوات وتلمُّس البركات! قال ﷺ محذرًا: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه» قالوا: اليهود والنصارى؟ فقال: «فمن القوم». -أو ما معناه-. كتبه الشيخ/ أحمد السبيعي الاثنين 25 صفر 1442ه الموافق 12 أكتوبر 2020م
المرفق | الحجم |
---|---|
علوم الآلة بين الصنعة والاستفادة.pdf | 350.54 ك.بايت |