مقدم الحلقة: بسَّم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد، يكون الدرس فى تفسير سورة البقرة فى اليوم العشرين من رمضان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة مع شيخنا الفاضل خالد بن عبد الرحمن حفظه الله تعالى ووفقه وسدده،
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٨٣﴾ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١٨٤﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿١٨٥﴾ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿١٨٧﴾ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١٨٨﴾{ [البقرة:183-188].
الشيخ: جزاك الله خيرا، الحمد لله ربَّ العالمين، وصلى الله وسَّلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
يقول الله -عز وجل-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]: فالله –سبحانه وتعالى- فرض الصيام، صيام شهر رمضان على هذه الأمة، أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- ،كما أنه-تبارك وتعالى- فرض الصيام على من مضى من الأمم قبلنا، وحينما تأتي الأحكام الشرعية من صيام، وصلاة وغيرها يأتى السياق فى النداء بـ -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا-، وحينَ تأتي مسألةُ التوحيد وعبادةُ الله يأتي الخِطاب -يَا أَيُّهَا النَّاسُ- وهذا هو الغالِب، إذا قالَ ربُنا -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- فما بعدها تكليفٌ من اللهِ للمؤمنين، وإذا قالَ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ- فما بعدها هو أمرُ توحيد اللهِ- عَزَّ وَجلّ- فيُخاطبُ الناسَ جميعا، فإذا أرادَ الأحكام من حلالٍ وحرام أو فرضٍ أو مُحرَّم خاطَبَ خاصةِ عبادهِ وهُم الْمُؤْمِنُونَ، وهذا هو غالِبُ النداءِ في القُرآن، ولذلك جاءَ عن بعض السلف، " قالَ إذا سَمعتَ الله يقول- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..- فأرعها سمعك فهو إما أمرٌ تمتثلُه وإما نهيٌّ تَجتَنِبُه"، يقولُ الله- جَلَّ وَعلا- }لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ وهذا هو المقصودُ من الصيام، ولذلك جاءَ في الصحيح أنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –(( قَالَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))، فالمقصودُ مِنَ الصيام هو تقوى الله ولذلك كما جاءَ في صحيح الْبُخَارِيُّ أنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَال: (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ)) ، فجعلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصومَ دافِعًا لشرِ الشهوة التي قد تجرُ الإنسان إلى ما يُغضِبُ الله- عزَّ وَجَلّ- فقال: ((..مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ)) فالصوم المقصودُ منه أن يُحققَ الإنسان تقوى الله- عزَّ وَجَلّ- وأن يظهرَ أثرُ ذلك على الجوارِح كما جاءَ عَنْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيح قال: (( وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ))، وفي رواية (( إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)) فإذا كُنتَ في الصوم وسَابّكَ أَحَد وَجَهِلَ عليك بقول أو فعل فتكونُ مُجاهِدًا في أن تملك نفسك ثُمَّ أن تقول إِنِّي صَائِمٌ، مُذَكِرًا نفسَك بطاعة الله -جَلَّ وَعَلا- فهذا هو المقصود من كُل العبادات مِن حجّ مِن صيام، زكاة ، كُل العِبادات المقصودُ منها تقوى الله، كما قالَ اللهُ- عَزَّ وَجَلّ-: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، لذلك إذا قام العبد بفرائض الله- سُبحانهُ وتعالى- ثُمَّ بقيَّ على ما هوَ عليهِ من سوء الخُلُق ومن الأذى للناس ومن الظُلم فليَعلَم أنهُ لم يؤدي العبادة كما طُلِبَت منه؛ لأنه لو أداها كما أراد الله – عز وجل- لوجد أثرها، كما قال تعالى:} إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ { [العنكبوت:45].
قال الله –جل وعلا-:} يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٨٣﴾ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ:{ فتأمل عظيم فضل الله على عباده، وعظيم لطفه في أحكامه. فأنت عندك في الشهر في الغالب ثلاثون يومًا والسنة اثنا عشر شهرا وفرض الله الصيام في شهر من اثني عشر شهرًا. يعني إذا قارنت أيام السنة وهي تزيد على ثلاث مئة وستين يومًا فقارنت أيام السنة بما هي تزيد على ثلاث مئة وستين يومًا، فتنظر إلى ما فرضه الله عليك من الصيام في الثلاث مئة والستين فتجد أن الله فرض عليك ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا بحسب الشهر إن كان تامًا أو كان ناقصًا. فتنظر إلى نسبة الثلاثين من الثلاث مئة وستين وزيادة. فهذا هو المعنى أيامًا معدودات فما هي إلا الأيام المعدودة التي هي إذا ما قورنت بأيام السنة عدت أيامًا يسيرة. وهذا من عظيم –جل وعلا- في أحكامه. كذلك الصلاة كما في الصحيحين لما عرج بالنبي –صلى الله عليه وسلم- إلى ربه -تبارك وتعالى- فرض كل يوم خمسين صلاة، فما زال يخفف الفريضة عن عباده ويرجع النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى ربه يسأله التخفيف حتى صارت خمسًا بعد أن كانت خمسين صلاة. أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ أخر، من كان له عذر مريضاً فالمريض حالتان عند أهل العلم. مريض يرجى برؤه بمرض يعلم أنه عن قريب بفضل الله عن قريب سيعافى ومريض لا يرجى برؤه مريض يستأصل به مرضه ولن يشفى منه. فالمريض الأول الذي يرجى برؤه وأن المرض الذي عنده من المعلوم في العادة أنه يعالج ويشفى منه بإذن الله فعليه القضاء فعدةٌ من أيامٍ أخر. فإذا ما شفاه الله وجب عليه قضاء الأيام التي أفطرها في مرضه، وأما المريض الذي لا يُرجى برؤه، ولا يُنتظر الشفاء لمرضه، فإنه يُفطر ويُطعم عن كل يومٍ مسكينا، وقد ثبت عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- بإسناد صحيح أن أنسًا لما كبر وشق عليه الصيام لكِبر السن فكان يدعو ثلاثين مسكينًا في آخر يومٍ من رمضان فيطعمهم لحمًا وخبزا، يعني يقيم عزومةً لهم - لهؤلاء المساكين- على قدر أيام رمضان التي أفطرها أنس فيطعمهم لحمًا وخبزا، فالرجل الكبير الذي بلغ به الإعياء والمشقة أنه لا يستطيع أن يصوم ولا يستطيع بداهةً أن يقضي، فهذا يُطعم عن كل يوم مسكينا، كذلك المريض، واختلف العلماء في حد المرض الذي يُجيز الإفطار، ما هو المرض الذي يُجيز الإفطار؟ فقال جماعة من أهل العلم: كل مرض وقع عليه اسم المرض قلّ أو كثُر فهذا يُجيزُ الإفطار. وقال بعض العلماء: لا ليس كذلك، قال بعض العلماء: المرض الذي يمنع من الصيام، قالوا يمكن أن يكون مريضًا ويقدر أن يصوم، فهذا لا يُفطر، فهذان مذهبان لأهل العلم قديمًا وحديثًا، منهم من قال: كل مرض يُجيز الإفطار، ومنهم من قال المرض الذي يمنع صاحبه من الصيام ويُدخل عليه الحرج إن صام.
قالوا: وإما إن كان مريضًا مرضا لا يمنع من الإفطار كمن يخلع ضرسه وما أشبه ذلك، قالوا هذا يجب عليه أن يصوم.
وقد روى الإمام البخاري معلقًا في صحيحه عند هذه الآية }:فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا{، روى معلقًا عن عطاء قال: يُفطر من كل مرض، بل إن الإمام البخاري –رحمه الله- عَمِل بهذا المذهب، فيروي الحاكم بإسنادٍ صحيح في تاريخ نيسابور إلى الإمام البخاري قال: "اعتللتُ عِلةً خفيفةً في رمضان وأنا في نيسابور فعادني إسحاق، يعني الإمام إسحاق بن راهويه، فقال: أفطرت يا أبا عبدالله؟ - عِلة خفيفة، مرض خفيف فأفطر الإمام البخاري- فقال له إسحاق: أفطرت يا أبا عبدالله؟ قال فقلت: نعم، ثم روى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن جريج قال: سألتُ عطاءً مما يُفطر أو من أي مرضٍ يُفطِر؟ فقال عطاء: يُفطرُ من المرض كائنًا ما كان. قال البخاري: ولم يكن هذا عند إسحاق، يعني لم يكن مطّلعًا ولا عالما بهذا الأثر عن عطاء"، فالمقصود أن الله –جلّ وعلا- أطلق المرض ولم يُقيّده بنوعٍ دون نوع.
فقال: }فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ{، إذا سافر الصائم إما قبل دخول الشهر أو أثناء الشهر لا فرق، يعني رجل في رمضان جاءه سفر وقت الظهر فسافر في نهار رمضان أثناء الصيام، فله رخصة أن يُفطر، سواء أنشأ السفر قبل الشهر ثم دخل عليه الشهر وهو مسافر كمن يسافر مثلًا للعلاج قبل رمضان، ثمّ يدخُل عليه شهر رمضان وهو مسافر. أو أن شاء السفر أثناء الشهر، كمن سافر في نهارِ رمضان، فلا فرق بين سفرٍ وسفر، فإذا سافر الإنسان فمن الرُخصةِ له أن يُفطر، فإن أحبّ أن يصوم فلا بأس في ذلك. ولذلك لمّا جاء كما في الصحيح؛ الرجل إلى النبيّ-صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: ((أصومُ في السفر؟ فقال: إن شِئت فصُم وإن شِئت فأفطِر))، فإن كان صومهُ في السفر يُدخِلُ عليه ضررًا فلا يجوزُ أن يصوم، لأنّ أحيانًا الإنسان في السفر يكون في موضِع التعب، وفي موضِع المشقّة، فربّما لو صام في السفر في مثلِ هذه الحال فيضرُّ نفسه، ففي هذه الحال يأتي الحديث: ((ليس مِنَ البرّ الصومُ في السفر))، إذاً ليس من البرّ إذا صام في السفر وأدخل على نفسهِ الحرج، وأمّا إذا كان قادِرًا على أن يصوم فقد ثبت في الصحيح؛ قال: ((سافرنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وما منّا صائِم إلاّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وعبدالله بن رواحة)).
فإذا كان الصيامُ لا يُدخِل عليك ضررًا جاز لك أن تصوم في السفر، وإذا كان يُدخِل عليك ضررًا حَرُمَ عليك أن تصوم في السفر، وإن شِئت أن تصوم فصُمْ وإن شِئت أن تفطِر فأفطرْ، والأمرُ واسع.
قال الله-جلّ وعلا-:}فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ{: يقضي من أيّامٍ بعد انقضاءِ رمضان، فبعد أن يرجع من السفر وبعد أن يُشفى المريض؛ يقضي أيّامًا أُخَر بعد رمضان.
قال الله-جلّ وعلا-:}وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ{: واختلف المفسِّرون والعلماء في المرادِ من قولهِ:}الذين يطيقونه {فقال بعضُ العلماء المعنى: الذين لا يطيقونه، الذين لا يقدرون على الصيام، وهذا قول جماعة من أهل العلم. وأجرى آخرون الآية على ظاهرها وهو أصح القولين: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي الذين لا عذر لهم ويُطيقون الصيام، ولكن أحبوا أن يُفطروا وأن يُفدوا، وقد صح عن جماعة كابن عباس وغيره أن هذه الآية كان في أول ما فرض الله الصوم، من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى، حتى نزلت الآية التي بعدها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأوجب الصيام على الجميع، ولم يُجز الفدية إلا للعاجز. فُنسخت هذه الآية التي كان فيها التخيير للصائم القادر على الصيام، إن شاء صام وإن شاء افتدى، أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا، فكانت هذه الآية وهذا الحكم في أول الأمر، ثم نُسخ هذا الحكم بالآية التي بعدها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فلم يجز بعد ذلك أن يفطر ويفدي إلا المعذور.
{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: إذًا انتبه حين تُفدي لا تُطعم كل أحد، لا بد أن تتحرى عن المسكين؛ لأنك إذا أفطرت أيامًا من رمضان ثم فديت وأتيت ببعض أقاربك، ابن عمتك ابن خالتك وأطعمته وهو ليس مسكينًا فلم تُحقق فرض الله من الفدية، بل تصير آثمًا إذا فديت وأطعمت عن الأيام التي أفطرتها، لكن أطعمت غنيًا لم تُطعم مسكينا، فالله قيد الإطعام بالمسكين، والقيود الشرعية لا يجوز إلغاؤها وواجبٌ العملُ بها إلا ما ألغى الشرع اعتباره، هذه قاعدة عند أهل العلم فهنا قيد وهو قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} بعض الناس يُخطئ، يفدي كيف يفدي؟ يقول والله هذه عشرة دنانير أعطوها لمسكين فهو لم يُطعم وإنما أخرج نقدًا، وهذا في اللغة ليس بإطعام، الإطعام أن تُعطيه طعامًا، فإذا لم تعطه طعامًا وأعطيته نقدًا خذ عشرة دنانير عشرين دينارًا وأطعم نفسك، فهذا لم يُحقق الأمر الشرعي، وهذا يجب أن تنتبه له، وهذا الإطعام حتى في كفارات اليمين { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّـهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } [المائدة:٨٩] كفارته إطعام إذا تكفّر عن اليمين تُطعم عشرة مساكين، فبعض الناس يخرج مالًا ويُعطيه لعشرة فهذا لم يُحقق الأمر الشرعي لأن المقصود الإطعام، فإذا أخرج النقد لا يُقول انه أطعم، وإنما يُقال بأنه تصدق بنقد.
قال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١٨٤﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْان}: وقد أخرج الطبري وغيره بإسناد صحيح، عَنْ ابْنِ عَبّاسَّ رَضْي اللهُ عَنْهما:" نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةِ الَقَدْرِ، فَوُضِعَ الْقُرْآنُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ"، وهو موضع وبيت في السماء، فهنا يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وهناك في سورة القدر يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[القدر:1] لأن ليلة القدر هي في شهر رمضان، فقد نزل القرآن في شهر رمضان من ليلة القدر في شهر رمضان، فأنزله الله-عز وجل- في زمن فيه الخير وفيه النعمة من الله على عباده، وفي ليلة مباركة، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}[الدخان:3]، وهى ليلة القدر، فنزل في ليلة مباركة، ونزل في شهر الصبر وهو شهر رمضان. فوضع القرآن في بيت العزة في السماء، ثم بدأ ينزل على النبي –صلى الله عليه وسلم- بحسب الأحوال والمناسبات شيئاً فشيئاً حتى تم نزوله كاملا.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}: كما تقدم معنا في أول البقرة: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] فالقرآن هدىٍ للناس كلهم بمعنى، وهدى للمتقين مخصوصٌ بهم بمعنى؛ هدىً للناس كلهم المؤمن والكافر، أي أن فيه الهدى لمن أراد أن يسلكه فهذه الهداية هداية للناس للمؤمن والكافر، أما المؤمنون؛ فهو هدىً لهم وهي هداية التوفيق وهي خاصة بالمؤمنين؛ أن الله جعل المؤمنين والمتقين عاملين بكتاب الله، وهداهم الله ووفقهم فصاروا مهتدين. فالقرآن في نفسه هدى فمن تمسك به صار مهدياً، فلا يكون هدى إلا للمتقين، بمعنى التوفيق وانشراح الصدر وقبول الأمر فهذه هداية التوفيق خاصة بالمؤمنين. فلذلك قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، وهنا قال: {هُدًى لِّلنَّاسِ} لمن أراد أن يتمسك به.
قال الله-جل وعلا-{وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ}: {هُدًى لِّلنَّاسِ}: ثم نعتهم مؤكداً وواصفاً:{وَبَيِّنَاتٍ} أي وفيه دلائل وبراهين:{مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، والفرقان: المفرّق بين الحق والباطل، فالقرآن مفرقٌ بين الحق والباطل، ولذلك قال الله: {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمرآن:3] أي المفرق بين الحق والباطل. ولذلك في صحيح البخاري أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان نائمًا، فجاءه ملكان وهو نائم فقال أحدهما للآخر: اضرب له مثلا. فقال الملك الآخر: إنه نائم، فقال الملك الأول: إن العين نائمة والقلب يقظان، فضرب له المثل في آخره قال: ومحمد فرْق بين الناس، وضبطت: ومحمدٌ فرّق بين الناس، بين الكافر والمسلم، فرْق بين الناس، بيّن الحق من الباطل. فدين الله – جل وعلا - قائم على الفرقان، وأنه لا بد أن يتميز صاحب الحق عن صاحب الباطل، وأن يتميز صاحب السنّة عن صاحب البدعة، وأن يتميز صاحب الطاعة عن صاحب المعصية. ولا يجوز أن يكون أمر الدين معمًّا ومشكل، لابد أن يكون أمر الدين وأحكام الشرع فارطة مبيّنة لا تلتبسه الباطل.
قال الله – جل وعلا-: }وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ{:
شهد الشهر وهو مقيم ومستقر في موطنه، والشهر كما جاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم- : (( إنّا أمة أميّة، لا نقرأ ولا نحسب، الشهر عندنا هكذا وهكذا)). وأشار مرة ثلاثين ومرة تسعا وعشرين، فالشهر قد يكون تاما وقد يكون ناقصا كما بين النبي - عليه الصلاة والسلام-.
}فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ{: وأما الآية الأولى: } وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ {، فكانوا مخيرين من شاء صام ومن شاء افتدى، ثم استقر الأمر على وجوب الصيام، وعدم الفدية إلا للمعذور.
}فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ{ : وهنا تساءل بعض أهل العلم: ما الفائدة من إعادة ذكر المريض والمسافر مع أنه تقدم ذكر المرض والسفر؟ ففي الآية قبلها قال:
ففي الآية قبلها قال { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ثم رجع مبيناً:{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ثم أعاد ما تقدم فقال: { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقد أجاب عن هذا بعض أهل العلم قالوا: "ما تعلق بالآية الأولى في المريض أو المسافر حين لم يكن الصوم مفروضاً وإنما كان مخيراً بين أن يصوم وبين أن يفدي فكان الحكم في الأول على هذا ثم لما أوجب الصوم على الجميع ولم يجز الفدية إلا للمعذور رجع مبيناً الحكم، فالصوم حين كان تطوعاً تقدم فيه حكم المريض والمسافر، وحين صار فرضاً لازماً فأعاد ذكر حكم المريض والمسافر" والله أعلم بمراد كلامه.
قال الله - جل وعلا-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: انظر إلى اليسر، اليسر في عدد الأيام: شهر من اثني عشر شهرا. أياما معدودات، يسر من الله على العباد. واليسر مراعاة أحوال الناس حين السفر فأسقط عنك فرض الصوم وعليك القضاء، وحين المرض فأسقط الله عنك فرض الصوم وعليك القضاء حين البَرْء وحين الشفاء. فكل هذا من التيسير ومن إرادة الله عز وجل بعباده اليسر.
{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } فتُكمل صيام الشهر وعدته تاماً، إن كان ثلاثين أو كان تسعة وعشرين.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}: عطف التكبير على إتمام عدة رمضان وقد أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية تكبيرَ العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى، فنزعت جماعة من السلف كما يرويه الطبري وابن أبي حاتم عن جماعة من أئمة المفسرين أنهم استدلوا بهذه الآية {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، استدلوا بها على تكبير العيدين، وقد ثبت بأسانيد صحيحة عن جماعة من الصحابة: علي رضي الله عنه وغيره وصح عن عمر وعن أبي هريرة وعن غيرهم من الصحابة تكبير العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى.
قال الله - جل وعلا-: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قرن بين الهداية والتكبير، وما المناسبة بين أن يُقْرن التكبير مع الهداية؟ لأن هداية القلوب متعلقة بقدرة الله، كما في صحيح مسلم: (( إِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَّاءَ ))، فلما كانت هداية القلوب وإزاغة القلوب بقدرة الله-جل وعلا- قرن بين تكبير الله وبين ذكر الهداية.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: وهذا شكر العمل؛ فحين تصوم وتؤدي ما أفترض الله عليك فقد شكرت ربك بالعمل وكذا تشكر ربك بالقول، وتشكر ربك بقلبك، فيتعلق شكر الله بالقلب واللسان والجوارح وهذا أتم الشكر.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}: وهنا مناسبة عظيمة بين ذكر الصيام وبين مسألة الدعاء، وقد ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (( ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ دَعُوْةُ الْوَالْدِ، ودَعُوْةُ الصَّائمِ، ودَعُوْةُ المُسَّافْرِ))، فيتبين لك الآن الحكمة من ذكر مسألة الدعاء بعد مسألة الصوم، أنَّ من نِعِم الله على عباده بعد أن شرع لهم الصيام وشهر رمضان، فمن نعمة الله على الصائمين قبول دعائهم، فعطف بذكر إجابة الدعاء بعد ذكر الصيام، (( ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ دَعُوْةُ الْوَالْدِ، ودَعُوْةُ الصَّائمِ، ودَعُوْةُ المُسَّافْرِ))، ومعنى دعوة الصائم لا تُرَدُ: مادمت صائما من أول النهار إلى أن تُفطر، فانظر إلى عظيم هذا الخير، بل لو كنت ذا فطنة وأردت أن تقضي حاجة من حوائج دينك أو دنياك فَصُم ثم تدعو ربك وأنت صائم فيستجيب دعاء، وأما ما رُوي في الحديث أن للصائم دعوة مستجابة عند فِطِرْه فهذا حديثٌ ضعيفٌ لا يصح، وقد ضعفه جماعة من علماء الحديث كالإمام الألباني وغيره. فدعوة الصائم مستجابة ليست مقيدة عند الإفطار. وأما هذا الحديث المروي للصائم دعوةٌ مستجابةٌ عند فطره فهو إسنادٌ ضعيف لا يصح، وإنما ما دمت صائماً فإن الأصل في دعائك القبول ولا يُردْ ما استجمعت الشروط وانتفت موانعِ عدم الإجابة.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}: هنا ملحظ ذكره بعض أهل العلم، قالوا: "أن ما جاء فى القرآن من الأسئلة توسط النبى-صلى الله عليه وسلم- بالإجابة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[المائدة:4]، فمتى جاء السؤال وسطه فى الإجابة، قالوا: فلما جاء لأمر الدعاء نزع توسيطه فى الإجابة، فلم يقل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}فقل:{فَإِنِّي قَرِيبٌ} وإنما باشر الجواب دون توسطه؛ ليبين –سبحانه وتعالى- أنه ينبغي للداعي أن يلجأ لله –سبحانه وتعالى- وأن يعلم أن الله قريبٌ منه –تبارك وتعالى-"، فإياك أن تجعل بينك وبين الله في الدعاء واسطة. عندنا في مِصْرَ، وأنا أضرب المثل بعادات بلادِنا في مِصْرَ لأني ما أعرف عادات البلاد هنا، من حُبِّ النَّاس للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ومن تعظيمهم له يقول: "يا رب بجاه نبيك محمد تكرمني"، هو يقصدُ خيراً ويُعظِّمُ جناب النبيَّ –صلى الله عليه وسلم-، ولكنَّه وقع في البدعة ووقع في الضَّلال؛ إذ أنَّه وسَّطَ وتوسَّل إلى الله بمخلوق في موضع الدُّعاء وهذا من البِدعِ والضلال. فالتوسُّل بجاه فلان من البِدع وهو من وسائِلِ الشِّرك، ودُعاءُ الموتى فهو من الشرك الصريح ومن الشرك الأكبر، فالتوسلُ بالموتى بدْعةٌ والاستغاثة بالموتى كُفْر، ما الفرق؟ الفرق يقول: "اللهم بجاه نبيك محمد-صلى الله عليه وسلم- تكرمني، تُعْطني وكذا"، هذا توسل بالموتى فوقع في البدْعة، فإنَّ الصحابةِ كما في صحيح البُخاري كانوا إذا أجدبوا يقول عمر: "اللهم إنَّا كُنَّا نتوسلُ إليك بنبينا فتسقينا، واليوم نتوسلُ إليك بعم نبينا"، فيدعو العبَّاس ويؤمنون على دُعائه، فلمَّا مات النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- ما كانوا يتوسلون به بعد موته، لكن لمـَّا كان حيَّاً كانوا يتوسلون إلى الله بدُعائه، فلمَّا مات انقطع دعاؤه فتركوه وعدلوا إلى العبَّاس كما يرويه البُخاري من قولِ عمر: "اللهم إنَّا كُنَّا نتوسلُ إليك بنبينا فتسقينا، واليوم نتوسلُ إليك بعمِّ نبينا".
فاحذر الشرك ووسائله، قال الله –جلَّ وعلا-: }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{:
وقُرب الله -جلَّ وعلا- قُرْبٌ من بابين قُرْبُ علْمِهِ؛ فإنَّه -سُبحانه وتعالى- قريبٌ من عباده بعلمه لا تخفى عليه خافية. وقُرْبُ ذاته؛كما جاء فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ سؤله، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ)).
هذا قُربُ ذات الرب أنهُ ينزِل نزولًا يليقُ بجلالهِ لَيْسَ{كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، كذلك في الصلاة، يَقول: ((إذَا صَلى أَحَدُكُمْ فَلا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ)) وكما جاءَ في الحَديث فيما صَححَ الألباني: (( إِذَا قَامَ الْعَبْدُ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَلَ وَجهِه))، وهذا قُرب في نزول الله- جَلَّ وَعلا- قُربُ الذات كذلك في صحيحِ مُسلِم وَإِنَّهُ لَيَدْنُو عَشِيَةَ عَرَفَة حتى يُبَاهِي بِعِبادِهِ مَلَائِكَتةَ يًقول "مَا أَرَادَ هؤُلاءِ"يدنو رَبنا عَشيَة عَرَفَة، حينَ يكون الناس في وقفةِ عَرَفَة فيدنو ويقربُ من أهل الموقف، وينزلُ في الثُلِث الأخير، وينصبُ وجههُ قِبلَ وَجهِ عبده، كُلُ ذلكَ نُثبتهُ على الحقيقة، على الوجه الذي يليقُ باللهِ – جَلَّ وَعَلا-:{كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}: فَتَبيّن ما جاءَ أيضًا في الحديث عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانوا مَعهُ فِي سَفَرٍ- فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَإنما تَدْعُونَ سَمِيعًا قَريبَا، وَهوَ قْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ، مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) فَقُربُ الله قُربُ علمٍ وقُربُ ذاتٍ على الوجهِ الذي يليقُ به:{كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى 11].
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}: فالإجابة ليست معناها أن يتحققّ ما أردته، كثير مِن الناس يظُن إنَّ إجابة الدعاء بأنَّ يُعطيهُ اللهُ سُؤله، اللهمَ ارزقني ولدا، فلم يُرزَق بالوَلَد، فيَظُن أنهُ لم يُستَجَب له، هذا خطأَ، النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو إلَّا أُعْطِيَّ وَاحدة مِنْ ثَلَاثٍ إما أن يُعطى سؤلَهُ، وإما أن يُدفع عنهُ مِنَ الشَر بِمثلِ ما دعى، وإما أن يُعطى من الخيرِ كذا وكذا)) أو كما قالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإجابة الدُعاء ليسَ معناها أن يتحقق لكَ طلبُك، وإنما قد يُجيبُ اللهُ الدعاء، بأنَّ يُحَققَ لكَ طلَبَك، وقد يُجيب بأنَّ يَدفع عنك مِن الشرّ ما لم لو لم تدعو لأُصبتَ به، أو يجلب لكَ مِن الخير بسبب دعائِك فإجابة الدعاء ليس كما يُظنّ كثيرا من النّاس أن يتحقق له المقصود، وقد تقدّم معنا الحديث في صحيح مسلم: ((أنّ الرّجل أشغث أغبر يقول: يا رب يا رب وملبسه حرام، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وغُذيَ بالحرام، فأنّى يُستجاب له))، فمن موانع قبول الدعاء أكل الحرام أو لُبس الحرام أو أن يُغذى بالحرام فيكون هذا من موانع قبول الدّعاء، فإجابة الدّعاء موقوفة على تحقق شروطِ الدّعاء في القبول، وانتفاءِ موانع الإجابة فمن حقق الشروط وانتفت عنه موانع قبول الإجابة؛ قُبل دعاؤه وأجيب دعاؤه
}فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي {: فليستجيبوا: إشارة إلى شرط الدّعاء، لا تدعُ الله وأنت مُتلبس بأكل الحرام فأنت لم تستجب له؛ فلا يستجيبُ لك (( يقول يا رب يا رب أشغث أغبر ومأكله ومشربه وغُذيَ بالحرام)) هذا لم يستجيب لله، بل هذا يدعو الله غيرَ مستجيب له وهو مُتلبس على معصية الله، فقوله }فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي { إشارة إلى أنّه حتّى يُستجاب لك فتستجيبُ لله -جلّ وعلا-، }فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي{ عدّ الإستجابة باللام وعدّ الإيمان بالباء، }فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي{ ثمّ رتب الرّشد على ذلك قال: }لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {.
ثمّ قال – تعالى-: }أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ{، فالصيام إنّما هو في النّهار فلا يجوز لك أن تُجامع زوجتك في نهار رمضان، فإن فعلت بطل الصومُ بإجماع أهل العلم وعليك الكفارة الكبرى، وعليك القضاء على أصحّ القولين في القضاء، أمّا إذا غربت الشمس فإن الله -تعالى- يقول:} أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ{: في صحيح البخاري كان قد حَرُمَ عليهم أن يقرب الرّجل امرأته في رمضان فكان ربما خان أحدهم نفسه فوقع بعضهم في ذلك، فأنزل الله التيسير ورخصّ لهم في إتيان نسائهم في ليلِ رمضان بعد أن كان ممنوعًا على تفصيل معروف عند أهل العلم.
قال الله: }عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ{: تأمّل لا يذكر عن الصحابة شيءٌ ممّا قد ينال من مكانتهم لذنبٌ فعله بعضهم إلا ويقرن الله ذلك بالعفو تعظيما لشأن أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وتبكيتًا وردًّا على الطاعنين في أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
تأمّل: القرآن كلّهُ لا يُذكر موضع فيه وقوع معصيةٍ من بعضِهم إلاّ ويُقرَنُ بالعفو، ولذلك: } إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّـهُ عَنْهُمْ{ ]آل عمران:155[. انتبه! انتبه! هذا من المواطن التي يجبُ على صاحبِ السنّة أن ينتبهَ لها في تعظيمِ قدرِ أصحابِ النبيّ-صلى الله عليه وسلم-، إستقراءُ القرآنِ كلّهِ، لا تجدُ موضعًا أبدًا فيه ذكرُ ذنبٍ لبعضِ الصّحابة، إلاّ ويُقرنُ بالعفو، لماذا؟ حتى لا يأتيَ طاعن يطعنُ في جنابِ أصحابِ النبيّ-صلى الله عليه وسلم- بمعصيةٍ أو بذنبٍ اِرتكبوه، فسدّ الله في وجوه الطاعنين طعنهُم، فما يُذكرُ ذنب عن أحد من أصحابِ النبيّ-صلى الله عليه وسلم- إلاّ ويُقرَنُ في كتابِ الله بالعفو والتّوبة. وهذا أمر ينبغي أن يُفطن له، لذلك لا يُذكر أصحاب النبيّ-صلى الله علي وسلم- إلاّ بالجميل، ومن ذَكرهُم بغير الجميلِ فهو على غير السّبيل.
قال الله-جلّ وعلا-:}عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ{: قيل: إبتغي بجماعِ إمرأتِك الولد الصالح.
}وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ{: فابتِداءُ الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، لذلك لما جاء الصّحابيّ عَديُّ بن حاتم ونزلت الآية: }الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ {، ولم يَكُن نزل بعد } مِنَ الْفَجْرِ {، فعمد إلى الخيط الأبيض وإلى الخيط الأسود في ظُلمة، وجعلهُما تحت وسادتهِ وينظُر، فمتى استبان له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فلما جاء إلى النبيّ-صلى الله عليه وسلم-أخبره، فقال مُتبسِّمًا-صلى الله عليه وسلم-: (( إنّ وِسادكَ لعريض أن كان الخيطُ الأبيض والأسود تحت وِسادتك))، الوِسادة التي بتنام عليها دي كم عُرضها؟! تاخذّ الخيط الأبيض يعني إيش؟
يعني الأُفق الليّ وين؟ الأفق في السماء الذي يمتدّ، مُعترِضًا هذا الخيط الأبيض، فيتجّه من الشّمال إلى الجنوب مُعترِضًا مُستطيلًا مُمتدًا من الشمال إلى الجنوب، فيمتدُّ وينسحِب من الشمال مُتّجِهًا إلى الجنوب، ويظهر هذا البياض فيتبّن أنّ الفجر دخل، هذا الخيط الأبيض. والخيط الأسود العكس، الظُلمة الممتدّة في الأفُق، فالنبيّ-صلى الله عليه وسلم-إنت خليت الخيط الأبيض والأسود هَدُوله تحت وسادتك! إذا وسادتُك ماذا؟! عريضة كبيرة جدًا، يُمازِحهُ-صلى الله عليه وسلم-. فأخطأ الصحابيّ ظنّ الخيط خيط الإبرة، لا، وكان لم ينزِلْ قوله:} مِنَ الْفَجْرِ {، فلمّا نزلَ: } مِنَ الْفَجْرِ { تبيّن أنّه أراد الخيط: الأُفق، بياض الأفق الذي يكون مُبيِّنًا لدخول الفجر من عدمِهِ.
قال الله-عزّ وجل-:} وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ {: فإذا كُنت مُعتكِفًا؛ فلا يجوز لك أن تقرب أهل بيتك لأنّ هذا يُنافي الإعتكاف.
} وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ{، والله أعلم بمُرادِ كلامهِ جزاكم الله خير.