السؤال:
بعضُ الإخوة الجالسين يسمعون عن الدعوة السلفية سماعًا ويقرئون ما يُكْتَبُ عنها من قِبَل خُصُومِها لا من قِبَل أتباعها ودُعاتِها،فالمرجُوُّ من فضيلتكم وأنتم من علماء السلفية ودُعاتِها شرح موقف السلفية بين الجماعات الإسلامية اليوم .؟
الجواب:
أنا أجبتُ عن مثل هذا السؤال أكثر من مرة لكن لابُدّ من الجواب وقد طُرِحَ السؤال،فأقول:
أقول: كلمةَ حقٍ لا يستطيع أي مُسْلمٍ أن يُجَادِلَ فيها بعد أن تتبين له الحقيقة.
أوّل ذلك:الدعوةُ السلفية نسبة إلى ماذا؟
السلفية نسبة إلى السَلَفِ،فيجب أن نعرِف من هم السلف؟
إذا أُطْلِقَ عند علماء المسلمين، السلف، وبالتالي تُفْهَم هذه النسبة، وما وزنها في معناها وفي دِلالتِها.
السلف هم أهلُ القرون الثلاثة الذين شَهِدَ لهم رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-بالخيرية،في الحديث الصحيح المتواتر المُخَرَّج في الصحيحين وغيرهما عن جماعةِ من الصحابة عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال:"خَيْرُ الناسِ قَرْنِي،ثُمَّ الذين يَلُونَهُم، ثُمَّ الذين يَلُونَهُم"
هذه القرون الثلاثة الذين شَهِدَ لهم الرسول-عليه السلام-بالخيرية.
فالسلفية تنتمي إلى هذا السلف،والسلفيون ينتمون إلى هؤلاء السلف.إذا عرفنا معنى السلف والسلفية حينئذٍ أقول أمرين اثنين:
الأمرُ الأول:أنَّ هذه النسبة ليست نسبة إلى شخص أو أشخاص كما هي نِسَب جماعات أخرى موجودة اليوم على الأرض الإسلامية،هذه ليست نسبة إلى شخص ولا إلى عشرات الأشخاص بل هذه النسبة هي نسبةٌ إلى العِصْمَة.
ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يُجْمِعُوا على ضلالة،وبخلاف ذلك الخَلَف،فالخَلَف لم يأتِ في الشرع ثناء عليهم بل جاء الذم في جماهيرهم، وذلك في تمام الحديث السابق حيثُ قال-عليه السلام-:" ((ثُمَّ يأتي مِن بعدِهِم أقوامٌ يَشْهَدُون ولا يُسْتَشْهَدُون)). إلى آخر الحديث.
كما أشار-عليه السلام-إلى ذلك في حديث آخر فيه مَدْحٌ لطائفةٍ من المسلمين، وذمٌ لجماهيرهم، من مفهوم الحديث حيثُ قال-عليه السلام: ((لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحقّ قاهرينَ لعدوهِم لا يضرهُم من خذلهُم أو خالفهُم حتى تقومَ الساعةُ))
فهذا الحديث خَصَّ المَدْح في آخر الزمن بطائفةٍ،والطائفة هي الجماعة القليلة،فإنها في اللُّغَةِ تُطْلَق على الفَرْد فما فوق.
فإذًا إذا عرفنا هذا المعنى في السلفية وأنّها تنتمي إلى جماعة السلف الصالح وأنّهم العِصْمَة فيما إذا تَمَسَّك المسلم بما كان عليه هؤلاء السلف الصالح،حينئذٍ يأتي الأمر الثاني الذي أَشَرْتُ إليه آنِفًا ألا وهو:
أنَّ كُلَّ مُسلِمٍ، يعرِف حين ذاكَ هذهِ النِّسبة، وإلى ما ترمي من العِصمة، فيستحيل عليهِ بعد هذا العِلم والبيان، أن ، لا أقول: أن يتبرَّأَ، هذا أمرٌ بدهي، لكني أقول: يستحيل ُ عليهِ إلاَّ أن يكون سلفيًا.
لأنَّ ما فهِمنا أنَّ الانتِساب إلى السَّلفية، يعني الانتِساب إلى العِصمة، من أينَ أخذنا هذهِ العِصمة؟
نحنُ نأخذُها من حديث يسْتدِلُّ بهِ بعضُ الخلف، على خِلاف الحقَّ، يستدلُّون بهِ على الاحتِجاجِ بالأخذِ بالأكثرية، مما عليهِ جماهير الخلف، حينما يأتون بقوله- عليهِ السَّلام- : (( لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلةٍ))، لا يصِحُّ تطبيق هذا الحديث على الخلف اليوم، على ما بينهُم من خِلافاتٍ جذريَّةٍ.
(( لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلةٍ))، لا يمكن تطبيقه على واقِع المسلمين اليوم، وهذا أمرٌ يعرِفهُ كُل دارِس لهذا الواقِع السَّيئ.
يُضافُ إلى ذلِك الأحاديث الصَّحيحة، التي جاءت مُبيِّنةً بما وقَعَ فيمن قبلنا، من اليهود والنَّصارى، وفي ما سيقع في المسلمين، بعد الرسول – عليهِ السلام– من التَّفرُّق .
فقال – صلَّى اللهُ عليهِ وآله وسلَّم - : ((افترقتِ اليهودُ على إحدَى وسبعينَ فِرقَةً ، ، وافترقتِ النّصارى على اثنينِ وسبعينَ فرقةً، وسَتَفْتَرِقُ أمّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً، كُلُّها فِي النَّارِ إلاَّ واحِدةٍ ، قيلَ يا رسولَ اللهِ من هم ؟ قال : همُ الجماعَة))،
هذه الجماعة، هي جماعة الرسول – عليهِ السَّلام-، هي التي يُمكِن القطع بتطبيق الحديث السَّابِق: (( لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلةٍ))، وأنَّ المقصود بهذا الحديث: هم الصَّحابة، الذين حَكَم الرسول – عليهِ السَّلام- بأنَّهُم هُي الفِرقة النَّاجية، ومن سلَكَ سبيلهُم، ونحا نحوهُم.
وهؤلاء السَّلف الصَّالِح هُم الذين حذَّرنا ربُّنا – عزَّ وجل – في القُرآن الكريم، من مُخالفتِهِم، ومن سلوكِ سبيل غير سبيلهِم، في قولِهِ – عزَّ وجلْ- :{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115]،
أنا لفَتُّ نظرَ إخواننا في كثيرٍ من المناسبات، إلى حِكمةِ عطفِ ربنا -عزَّ وجل- قولَهُ في هذه الآية: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }على مُشاققةِ الرسول، ما الحكمة من ذلك؟
مع أنَّ الآية لو كانت بحذفِ هذه الجملة.
لو كانت كما يأتي: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، لكانت كافيةً في التَّحذيرِ، وتأنيب من يُشاقِق الرسول – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم -، والحُكم عليهِ بمصيرِهِ السيئ.
لم تكُن الآية هكذا، وإنَّما أضافت إلى ذلك، قولهُ– عزَّ وجل- :{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }، هل هذا عبث؟
حاشا لكلام الله- عزَّ وجل- من العبث، إذن ما الغاية، ما الحِكمة من عطف هذه الجُملة: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }، على { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ}؟
الحِكمة في كلام الإمام الشَّافعي، حيثُ استدلَّ بهذهِ الآية على الإجماع، أي: من سَلَكَ غير سبيل الصَّحابة الذين هُم العِصمة، في تعبيرنا السَّابق، وهم الجماعة التي شهِد لها الرسول – عليهِ السَّلام- بأنَّها الفِرقة النَّاجية ومن سلَكَ سبيلهُم، هؤلاء هُم الذين لا يجوز لمن كان يريد أن ينجُوَ من عذاب الله، أن يُخالِف سبيلهُم ، ولذلك قال تعالى : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
إذن على المسلمين اليوم في آخر الزمان أن يعرفوا أمرين اثنين :
أولاً : من هم المسلمون المذكورين في هذه الآية؟
ثم ما الحكمة في أن الله- عزَّ وجلّ- أراد بها الصحابة الذين هم السلف الصالح ومن سار سبيلهم ؟
قد سبق بيان جواب هذا السؤال أو هذه الحكمة وخلاصة ذلك :
أن الصحابة كانوا قريب عهد بتلقي الوحي غضًّا طَرّيًا من فَمِ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ – أولاً.
ثم شاهدوا نبيهم-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ – الذي عاش بين ظهرانيهم يُطبّق الأحكام المنصوصة عليها في القرآن والتي جاء ذكر كثير منها في أقواله -عَليه الصَلاة والسلام –
بينما الخَلَف لم يَكُن لهم هذا الفَضل من سَماعِ القُرآن، وأحاديث الرسول - عليه السلام -منه مُباشَرةً ، ثُمَّ لم يَكُن لهَم فَضل الاطلّاع على تطبيق الرسول -عليه السلام- لنصوص الكِتَاب والسُنّة تَطبيقًا عَمليًا ، ومن الحكمةِ التي جاءَ النصّ عليها في السُنّة : قَولَه -عَليهِ السَلام -: (( ليسَ الخَبر كَالمُعَايَنة )) وَمنه بَدأَ، وِمنهُ أَخَذ الشاعر قوله : ( وَمَا راءٍ كَمَن سَمِع ).
فإذن الذين لم يشهدوا الرسول -عليه السلام -ليسوا كأصحابه الذين شاهدوا وسمعوا منه الكلام مباشرة ورأوه منه تطبيقاً عمليا .
اليوم توجد كلمة عصرية نَبَغ بها بعض الدعاة الإسلاميين وهي كلمة جميلة جداً ، لكن أجمل منها أن نجعل منها حقيقةً واقعة واقعة ، يقولون في محاضراتهم وفي مواعظهم وإرشاداتهم (أنه يجب أن نجعل الإسلام يمشي واقعاً يمشي على الأرض)
كلام جميل ، لكن إذا لم نفهم الإسلام وعلى ضوء فهم السلف الصالح كما نقول لا يمكننا أن نحقق هذا الكلام الشاعري الجميل أن نجعل الإسلام حقيقة واقعية تمشي على الأرض ، الذين استطاعوا ذلك هم أصحاب الرسول -عليه السلام- للسببين المذكورين آنفاً ، سمعوا الكلام منه مباشرةً ، فَوَعَوْهُ خير من وَعِيَ ،ثم في أمور هناك تحتاج إلى بيان فعلي ، فرأوا الرسول -عليه السلام -يبين لهم ذلك فعلاً .
وأنا أضرب لكم مثلاً واضحاً جداً ،هناك آيات في القرآن الكريم ، لا يمكن للمسلم أن يفهمها إلا إذا كان عارفاً للسنة التي تبين القرآن الكريم ، كما قال عز وجل : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[ النحل 44]
مثلًا قوله تعالى :{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }[المائدة:38]. الآن هاتوا سيبويه هذا الزمان في اللغة العربية فليفسر لنا هذه الآية الكريمة ، {وَالسَّارِقُ }، من هو؟
لغةً لا يستطيع أن يحدد السارق ، و{اليد} ما هي؟
لا يستطيع سيبويه آخر الزمان، لا يستطيع أن يعطي الجواب عن هذين السؤالين ، من هو السارق الذي يستطيع أو الذي يستحق قطع اليد ؟
وما هي اليد التي ينبغي أن تُقطع بالنسبة لهذا السارق ؟
اللغة : (السارق) لو سرق بيضة فهو سارق ، و(اليد) هي هذه، لو قُطِعَتْ هنا أو هنا أو في أي مكان فهي يدٌ .
لكن الجواب هو : حين نتذكر الآية السابقة : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[ النحل 44] ،الجواب في البيان ، فهناك بيان من الرسول -عليه السلام- للقرآن ، هذا البيان طَبَّقَهُ عليه السلام فعلاً في خصوص هذه الآية كمثل وفي خصوص الآيات الأخرى ، وما أكثرها ، لأن من قرأ في علم الأصول يقرأ في علم الأصول أنه هناك عام وخاص ومطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ ، كلمات مجملة يدخل تحتها عشرات النصوص ، إن لم يكن مئات النصوص ، نصوص عامة أوردتها السُنة ، ولا أريد أن أطيل في هذا حتى نستطيع أن نجيب عن بقية الأسئلة .