إنكار المنكر بين السنة والبدعة
محاضرة للشيخ/ أبي العباس عادل بن منصور
بمشاركة الشيخ/ أحمد بن حسين السبيعي
· الشيخ أحمد السبيعي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وسلم، أما بعد:
فإن من خيرية هذه الأمة المباركة العظيمة أن شرع الله -تبارك وتعالى- لها حُكمًا عظيمًا راسخًا تتمكن من خلاله ويتمكن كل الناس من أن يستديموا بيان المعروف والدلالة عليه، وتقليل المنكر وتقليصه ومحوه من الوجود ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، قال الله -تعالى-: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، فقدم الله -تبارك وتعالى- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله حتى يتبين للناس أهميته، وتترسخ مشروعيته، ويُعلم أنه أحد أركان الإسلام العظيمة التي لا يقوم هذا الدين إلا بها طال الزمان أو قصر، ووصف الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بأنهم قائمين بهذه الفريضة وقائمين بهذا الحكم على الوجه المشروع، فقال الله -تعالى-: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
وفي هذه الليلة المباركة نستضيف شيخنا الفاضل أبا العباس عادل بن منصور الباشا، حفظه الله، ووفقه لكل خير، وأجرى الخير والحق على لسانه، وفتح عليه في هذا الموضوع الذي أحسن انتقائه واختياره، بل وأحسن عنوانه؛ حيث أخذ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخذ لفظ (إنكار المنكر) لأنه هو المعترك الذي يتفرق فيه الناس، ثم بين أن هذا الإنكار لأهل السنة أتباع الصحابة هدي يجرون فيه على سَنن الحق وعلى طريقة الرشد وعلى هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأنه في مقابل ذلك اتخذه أهل البدع ستارًا لإنفاذ نزواتهم ورغباتهم وضلالاتهم، وحتى يُظهروا للأمة أنهم القائمين بشأن الدين وهم الخونة للحق والسنة. فأسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يشرح صدر شيخنا، وأن يسدده في مقصده ولفظه وعلمه، وأن يفتح عليه في هذه المسألة فتحًا مبينًا يشفي غليل أهل السنة المؤمنين ويقمع به ويخذل به المبتدعة والضالين. فليتفضل مأجورًا مشكورًا .
· الشيخ أبو العباس:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فجزى الله خير الجزاء وأوفاه وأجزله وأعلاه شيخنا الفاضل الكريم أبا محمد أحمد بن حسين السبيعي -حفظه الله تعالى-، وجزى الله خيرًا جميع إخواننا الذين يشاركوننا هذا الخير بحضورهم أو باستماعهم ومتابعتهم عبر هذه الإذاعة السلفية النافعة إذاعة النهج الواضح، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين فهذا أساس الخيرية، كما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
ولا شك أن من أمر الدين: أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إنكار المنكر، لهذا مدح الله أصحاب نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهم الأصل المقصود في هذه الآية والأمة تبع لهم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، فهؤلاء الصحابة الكرام هم خير من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر بعد الأنبياء والرسل، فلا بد من ترسُّم خطاهم والسير على هديهم الذي أخذوه من نصوص الكتاب والسنة، فهذا الفقه السني الصحابي الجليل ينبغي أن نسير عليه في كل أمور ديننا.
وما من مسألة في الدين إلا ونجد لأهل الأهواء والبدع فيها غالبًا مسلكًا يخالف مسلك الصحابة الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-، إما في أصل الأمر الذي يتعبدون به، وإما في صفته ولواحقه ووسائله وتطبيقه والعمل به؛ فيكون الأصل مشروعًا ولكن العمل على خلاف ما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
والحقيقة أن مقدمة الشيخ أحمد -حفظه الله تعالى- قد عصرت الموضوع عصرًا ووضحت المعالم: أن لأهل السنة في إنكار المنكر هديًا مستقلًّا مفارقًا لهدي وطرائق أهل الأهواء والبدع، لأنهم أخذوه من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- القائل: «وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-»، فلا شك أن يكونوا في هذا الأمر كغيره من مسائل الدين على الهدى المستقيم.
لست الآن في ذكر مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضائله وأهميته، وقد تقدمت إشارة الشيخ إليه، وهذا مسلك معروف في النصوص الشرعية لا يُنكر؛ ذِكْر فضائل الأعمال، فضائل العلم، فضائل التوحيد، فضائل الصلاة، فضائل الجهاد، فضائل الدعوة إلى الله، فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسنه، هذه الأمور مقررة شرعًا بالأدلة الصحيحة من كتاب ربنا وصحيح الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ولكن هناك شيء وراء ذلك وهو أهم من ذلك، أهم من معرفة فضائلها ومحاسنها أن نعرف حقيقتها الشرعية وصفتها الشرعية التي ينبغي أن نتقرب إلى الله بها؛ تعرف فضائل التوحيد شيء ولكن تعرف حقيقة التوحيد هذا أهم، تعرف فضائل العلم شيء ولكن تعرف حقيقة العلم المقصود شيء آخر، تعرف فضائل الجهاد في سبيل الله شيء ومليئة به السنة ولكن تعرف حقيقة الجهاد الشرعي الذي وردت في حقه هذه الفضائل هذا شيء آخر -هذا لا يعرِّفك إياه إلا أصحاب السنة المحضة الناصحون-، تعرف فضائل ومحاسن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحاجة الأمة إليه هذا شيء وطرف ولكن تعرف حقيقته والمسلك الصحيح فيه هذا شيء آخر لا تقف عليه عند كل متحدث. لهذا، ليس من طرائق الأئمة الناصحين أن يذكروا فضائل أعمال دون أن يبينوا حقائقها والطريق الشرعي فيها.
إذن فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين، فمن الخيرية الفقه فيه، وخير الفقه فيه أن تكون فقيهًا فيه على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهدي الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم-. وبما أنه من الدين فشروطه شروط كل أمر شرعي: لا بد فيه من الإخلاص لله -تبارك وتعالى- ولا بد فيه من متابعة الهدي، لا بد فيه من متابعة السنة.
والمنكر في شريعة الله -عز وجل- ما أُنكر شرعًا، ما دل الدليل الشرعي على أنه منكر؛ فهنا نخرج ليس المنكر ما جاء على خلاف عادتك وما اعتدته في قطرك أو بين يدي مشايخك أو ما اعتدت ونشأت عليه في بيئتك أو مجتمعك، لا، هذه لا اعتبار لها، إنما المنكر ما أنكره الشرع والمعروف ما عرفه الشرع، هذا أمر لابد أن نعلمه.
أمرٌ يليه: وهو أن المنكر ليس على درجةٍ سواء كما أن المعروف ليس على درجةٍ سواء، فأنكر المنكر وأعظمه وأشده وأظلمه: الشرك بالله -تبارك وتعالى-، وهو أعظم الظلم وأعظم المنكر وأعظم الفسق الأكبر الكفر بالله، وهو الفسق الأكبر والظلم الأكبر الكفر بالله -تبارك تعالى- والشرك به وعبادة غيره معه؛ سواء كان هذا المعبود نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا صالحًا إنسيًّا أو جنيًّا كل من عُبد مع الله -تبارك وتعالى-، فهذا أعظم المنكرات على الإطلاق. وللإسلام هدي في إنكاره وفي تغييره وإزالته، لأن مقصد الشرع كما تقدم في كلمة شيخنا -حفظه الله تعالى- إما إزالة المنكر وإما تخفيفه وتقليله، هذا مقصد الشرع إما إزالته وإما تخفيفه وتقليله في المجتمع أو في الفرد المعيَّن، فلهذا يجب أن نتفقه في دين الله -عز وجل- تفقهًا صحيحًا حتى نعبد الله -تبارك وتعالى- على بصيرة.
فالمنكر مراتب، يلي هذه المراتب من الناس من لا يعرفها من حيث العلم النظري، ومِن الناس مَن يقررها لك نظريًا ولكنه في فؤاده وفي عمله وفي ولائه وفي برائه وفي إقدامه وفي إحجامه وفي مدحه وفي ذمه لا يراعي هذا الترتيب الشرعي، فماذا يغني عنه القول وقد أساء في العمل؟ لهذا قال من قال من السلف كالحسن، وروي عن عبدالله بن مسعود وغيره، قال: لا تنظروا إلى أقوال الناس فإن الناس قد أحسنوا القول كلهم، ولكن انظروا إلى العمل. فمراتب المنكر: الشرك والكفر بأنواعه وبقسميه أكبر وأصغر، يليه البدعة في الرتبة التالية هذه البدع والضلالات، يليها الكبائر، يليها المحرمات من الصغائر. لو لاحظت هذا الترتيب ينبغي أن يكون على بالك، وأن يكون ولاؤك وبراؤك وإقدامك وإحجامك بناء على هذا الترتيب في إنكار المنكر.
الأمر الثالث: ذكر عدد من الأئمة أن من مهام ولي الأمر مع إقامته الدين والصلوات والجمعة والأعياد، قالوا: وإعانته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذن الأصل أن هذا الأمر من الأمور العظيمة أيضًا التي يُناط بها ولي الأمر فيما لا يصلح إلا له؛ كالجهاد والحدود والتعزيرات وسائر أنواع العقوبات، لأن الأمر وإنكار المنكر عام وليس فقط خاصًّا بالمعاصي الشهوانية، لا؛ رد القول الخطأ الباطل من عالم كبير هذا من إنكار المنكر، رد البدعة من إنكار المنكر، رد القول المخالف للسنة ولو من عالم سنة هذا من إنكار المنكر. إذن لا تحصر أنت إنكار المنكر فيما يتعلق فقط بجانب المعاصي الشهوانية، هذا خطر في الدين.
النبي -عليه الصلاة والسلام- يمشي في السوق يُدخل يده في صرة طعام يخرجها مبتلة فينهى صاحب الطعام، ويقول: «ألا جعلته أعلى -أو ألا أظهرته- من غشنا فليس منا»، إذن النهي عن الغش في المعاملات في المطعومات في المشروبات في الملبوسات في الأدوية، هذا من إنكار المنكر. ولولاة الأمر بدولهم أجهزة مستقلة قائمة بهذا النوع من إنكار المنكر؛ في باب الصحة، في باب الأطعمة، وزارات التجارة في بلدان المسلمين، في باب الأغذية، في باب الأدوية، في باب.. كل هذا موجود، بل ويوجد لكثير من الدول تطبيقات في برامج التواصل المعاصرة بمجرد أن تقف على شيء من ذلك تصوِّره فيعرفون موقع الحدث وموقع المنكر وموقع المفسدة الموجودة وموقع الغش والتحايل، فيأتون ويتصرفون على موجب ما يقتضي مراعاة مصلحة الناس. إذن فالقول بأن حكومات المسلمين تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بهذا الإطلاق هذا قول غير صحيح، ولكنه صادر عن تصور ضيق محرف لمسألة المنكر، وقد لاحظنا هذا الترتيب أيضًا، كونوا منه على ذُكْر.
الأمر الرابع الذي يليه -حفظكم الله تعالى-: وأنا أصدقكم والصدق منجاة أني كما ذكر الشيخ -حفظه الله تعالى- اخترت هذا العنوان لتلك المقاصد التي ذكرها، ولكني يوم جئت أرتب في ذهني وفي أوراقي عناصر هذا الموضوع إذا به موضوع كبير وفرقاني كبير، ولا يكفيه أربعون دقيقة ولا ساعة ولا ساعتان ولا ثلاث، ويحتاج من إخواننا المشايخ الفضلاء وأساتذتنا أن يكثروا الطرح لبيان النهج الواضح والفرقان السني بين طريقة أهل السنة في إنكار المنكر وطريقة أهل الأهواء والبدع قديمهم وحديثهم، هذا لا بد منه. فأنا أقر ابتداءً بأني وقفت مذهولًا وعاجزًا نوع عجز عن أن أستوفي العناصر الرئيسية للموضوع فضلًا عن تفاصيله، هذا التنبيه أقوله وبكل كما يقال أريحية وبكل اعتراف بين أيديكم.
فالأمر الذي يليه كذلك -حفظكم الله تعالى-: أن المنكر يُنظر إليه من جهات؛ الجهة الأولى: ذكرنا الترتيب، الجهة الثانية: ذكرنا مرتكب هذا المنكر، الفرق بين أن يكون مرتكبه حاكمًا ولي أمر فكيف يكون إنكاره؟ ثم هذا الحاكم وولي الأمر بين أن يكون المنكر خاصًا به في خاصة نفسه وبين أن يكون المنكر متعلقًا بأيش؟ بعموم رعيته وأنظمة دولته، كذلك بين أن يكون المنكر بدعة أو أن يكون المنكر معصية شهوانية، هذا تفريق، كذلك الحديث عن المنكر من جهة إنكاره؛ أن يكون هناك إنكار باليد في مجال مباح لك الإنكار فيه باليد شرعًا، لا تأخذ كلمة مَن وتنطلق دون النظر إلى النصوص الشرعية الأخرى. نحن قلنا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة ومن الدين فنحتاج إلى الفقه فيه، والفقه فيه وفي غيره يحتاج إلى جمع النصوص وضمها بعضها إلى بعض، أما أن تأخذ طرفًا من النصوص الشرعية وتترك طرفًا آخر، وتأخذ نصوصًا شرعية وتترك تطبيقات الصحابة والسلف لها؛ هذا تحايل، هذا غير نصح أو قصور في العلم وكلاهما ضرر.
ودعني أذكر لك بعض الوقائع على سبيل المثال، إن صح أن نقول عبارة: إن وراء كل حديث قصة. فنحن نسمع مثلًا الحديث النبوي الصحيح حديث عياض بن غنم -رضي الله عنه-: «من كان له نصيحة لذي سلطان فلا يبدها علانية» (نصيحة) نكرة، (لذي سلطان) نكرة كان سلطان بلده ولّا سلطان غيره، (فلا يبدها علانية) بغض النظر عن تلك الوسيلة المعلنة سواء كانت منبر جمعة أو كتابًا أو حسابًا في وسائل التواصل، (علانية) كل ما دخل في دائرة العلن. ثم لم يكتف بذلك: «من كان له نصيحة لذي سلطان فلا يبدها علانية، ولكن ليخلو به وليأخذ بيده، فإن قبل منه فالحمد لله، وإن لم يقبل فقد أدى الذي عليه».
هذا الحديث مِن أشهر مَن خرَّجه الإمام الكبير أبو بكر بن أبي عاصم في كتابه "السنة" (باب كيف ينصح الرعية الولاة)، هنا خرَّج محل الشاهد أليس كذاك؟ فأخرجه مختصرًا، لكن لما ترجع إلى هذا الإمام نفسه يوم خرَّج هذا الحديث في كتابه الآخر الموسوعي "الآحاد والمثاني" خرجه بقصة: أن عياض بن غنم يوم فتح داريا أتى بصاحبها فجلده وضربه، وكان في الحاضرين -وهنا اللفتة المهمة- صحابي جليل اسمه هشام بن حكيم بن حزام كان في الحاضرين، فأعلن للرجل الإنكار أعلن لهذا الصحابي الإنكار: لماذا تظلم هذا الرجل؟ فسكت عنه عياض، فذهب هشام بقي ليالي ثم ندم هشام الصحابي الجليل وجاء إلى أخيه الأمير عياض ليعتذر له، وأراد أن يبدي عذره، فيقول له: أنا ما أنكرت عليك ضرب الرجل هذا أمام الناس إلا لأنك سمعت يا عياض قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة أشدهم عذابًا للناس في الدنيا»، قال له: يا هشام، والله لقد سمعنا مثل ما سمعت وعلمنا مثل ما علمت وصحبنا مثل ما صحبت، أوما سمعت يا هشام رسول الله -أو ما بلغك أن رسول الله- قال: «من كان له نصيحة لذي سلطان فلا يبدها علانية»؟ نحن نعرف الحديث بدون سببه، الآن هذا صحابي صدر منه فعل، صح؟ صحابي أنكر على ولي الأمر علنًا وفي مجلسه، صح ولّا لا يا إخوان؟ لكن لما ترجع إلى المحاورة بين الصحابيَّين إذا به يبلغه بالسنة النبوية في ذلك فيعتذر ويقره. فقال له عياض بعد أن ساق له الحديث: والله إنك لجريئ يا هشام، أما تخشى أن تُغضب السلطان فيقتلك، فتكون قتيل سلطان الله في الأرض؟
وفي هذا تنبيه على بعض من قد يأتي ببعض المواقف سواء لصحابي أو لتابعي تخالف هذا الحديث فيحتج به ويورده، نقول له: وهل قيل هذا الحديث إلا لصحابي خالفه قبل أن يعلم به؟ انتبه لهذه المسألة: صحابي أو إمام معتبر أو تابعي أو جليل قد يكون من أعذاره -وهو الأصل- أنه لم يبلغه، ولو بلغه والله ما خرج عنه.
نسمع حديث الترمذي وأحمد وغيره، عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله». ولكن لهذا الحديث قصته: صعد ابن عامر المنبر يخطب، فقال أبو بلال -وقد ذكر بعض الشراح أن أبا بلال يمكن احتمالًا أن يكون هو أبو بردة قاضي البلدة، ابن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، وكان ابنه بلال بعدُ من الأمراء- فقال أبو بلال وقد رأى على ابن عامر ثيابًا رقاقًا وقيل: حريرًا تشف عما تحتها من رقتها، فقال: ألا ترون إلى أميركم يلبس ثياب الفساق؟ علق بتغريدة بسيطة في جوٍّ مناسب على لباس أميره، لباسه: ألا ترون إلى أميركم هذا يلبس لباس الفساق؟ فنظر إليه أبو بكرة وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -يسمعه ويسمع غيره حتى لا يتفشى هذا فيمن حوله-: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله». هذا صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل مثل هذا الإنكار على هذه الصفة هو من إهانة سلطان الله -عز وجل-.
الأمر الذي يليه -دون مراعاة لترقيم أو ترتيب-: أنه لما كانت هذه فوارق بين أهل السنة وبين أهل البدعة في إنكار المنكر صار لأهل البدعة مسالك، حتى أصبح إنكار المنكر وإظهار إنكار المنكر من أصولهم. فلو أخذت مثلًا المعتزلة وأصولهم الخمسة، الأصل الخامس عندهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُدخلون تحته إنكار المظالم على السلطان والخروج عليه. وأول ما وقعت فتنة الخوارج في هذه الأمة وقتل بها عثمان كان لإنكار المنكر وإظهار إنكار المنكر.
وقد ذكر الآجري في مواضع وأختصر كلامه في مواضع من "الشريعة"، وذكره أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "منهاج السنة": أن عبدالله بن سبأ اليهودي لما جاء إلى أهل مصر قال لهم -أحب أن أقرأها فيما يتعلق بهذه الرواية خاصة- قال لهم، لأهل مصر. قال الآجري -رحمه الله-: قال لهم ابن سبأ موصيًا أتباعه: فانهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه (هاه الحركة) فانهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه (ما يصح يبقى ساكن لا بد من تحريكه)، وابدأوا بالطعن على أمرائكم (أي قبل عثمان) وأظهِروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس. فبثَّ دعاةً (شوف كلمة: دعاة، ما في عندنا في السنة دعاة مطلقة، هذه أصلًا أول ما تُطلق تُطلق على دعاة الخوارج، وعلى دعاة الانقلاب والخروج، وعلى دعاة الباطنية، يلقب فلان داعية وفلان من الدعاة، أما عندنا في الإسلام: داعي إلى الله، داعي إلى الهدى) قال: فبثَّ دعاةً، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودَعَوا في السير -والصحيح أنهم: ودَعَوا في السر- إلى ما عليه رأيهم، (إذن فيه دعوة سرية، فيه حركة، فيه دعوة سرية فيه دعوة علنية، ما هي الدعوة العلنية؟) وأظهروا الأمر بالمعروف، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار، قال: بكتبٍ يضعونها في عيوب ولاتهم. وقال الآجري -رحمه الله- في أول "الشريعة" له: ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى واجتمعوا، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قدموا المدينة فقتلوا عثمان. وقال في المجلد الرابع منها صفحة (1979): فهكذا عبدالله بن سبأ أظهر الإسلام، وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار له أصحاب في الأمصار، ثم أظهر الطعن على الأمراء، ثم أظهر الطعن على عثمان، وكان بداية أمره بالطعن على عمرو بن العاص. فتأمل ماذا يقول، قال: فبدأ في الطعن أيضًا في المجلد الرابع صفحة (1986) قال: فبدأ بالطعن على عمرو بن العاص، فقال: ما باله أكثركم عطاء ورزقًا؟! (ليش عنده فلوس أكثر؟ ما باله؟ ما تشوفهم يتتبعون قصور الأمير فلان، ومزارع الأمير فلان، وشبوك الأمير فلان، وما أدري أيش فلان، ورصيد الأمير فلان، هكذا يتتبعون.. سيأتيك) قال: ما باله أكثركم عطاء ورزقًا؟! (تأمل كيف سيدخل عليهم) ألا ننصب رجلًا من قريش (أول واحدة: خليفة أيش؟ قرشي، يتخذها ستارًا ليخرج على الخليفة الموجود غير القرشي، فاتخذ القرشية أيش؟ ستارًا) ألا ننصب رجلًا من قريش (ماذا يفعل؟) يسوِّي بيننا؟ (المساواة دعوة قديمة يهودية، من عهد عبدالله بن سبأ ما هي من اليوم) قال: يسوي بيننا؟ فاستحلَوا ذلك منه (يشوفوه حلو، مذاقه أيش؟ حلو؛ هاه يطالب بالحقوق، يعطي الشعوب حقوقها، ينكر على الحكام ظلمهم).
ولهذا يقول بعض دعاة الضلالة من على منبر إعلامي عرف بالفتنة كذلك يقول: لا نكتفي بإنكار المنكرات الأخلاقية، لا بد أن يكون عندنا الإنكار السياسي! شوف: الإنكار أيش؟ السياسي، الإنكار على الاستئثار، الإنكار على الحكام، الإنكار على الطغاة، لماذا لا نتحدث حول هذه المنكرات السياسية! ما عندنا إحنا، شنو منكرات سياسية؟! إما أن يكون الأمر من خصائص ولاة الأمور فالدخول فيها من المنازعة، وقد نُهينا أن ننازع الأمر أهله، وإما أن يكون قد أتى منكرًا لا عذر له -انتبه-، أو ترك معروفًا لا عذر له في تركه، وإلا فقد يأتي المرء منكرًا ولا يكون ملومًا، وقد يترك معروفًا ولا يكون ملومًا؛ لأن إتيانه المنكر دفع به ما هو أنكر، ولأن تركه المعروف دفع به ما هو أنكر. لهذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه "منهاج السنة" كلامًا لا بد أن نفهمه: لكن إذا لم يُزَل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا، وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة. المجلد الرابع من "منهاج السنة" صفحة 536.
أرجع إلى كلامه -أعني: ابن سبأ- فيما يتعلق بعمرو بن العاص، قال هنا: فقال لهم: ننصب رجلًا قرشيًّا يسوي بيننا، فاستحلَوا ذلك منه، (لكن هنا إشكال) قالوا: وكيف نطيق ذلك مع عمرو بن العاص وهو رجل العرب؟ (يقولون: كيف نسوي؟) قال: تستعفون منه، (يعني: تطلبون الإعفاء من المناصب، عدم التوظف في وظائف الدولة) قال: تستعفون منه، ثم نعمل عملنا، ونُظهر الائتمار بالمعروف والطعن، فلا يرده علينا أحد.
ولهذا كان في مقدمة الآجري في "الشريعة" -رحمه الله- قال: لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أن الخوارج قوم سوء عُصاة لله -تعالى- ولرسوله، وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة فليس ذلك بنافع لهم، نعم ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس ذلك بنافع لهم، لأنهم قوم يتأوَّلون القرآن على ما يهوَون ويموِّهون على المسلمين... إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.
فالمقصد إذًا: بان أن لأهل السنة في هذا الباب طريقتهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الواسطية" بعد أن ذكر أصول السنة قال: وهم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. قال العلماء الشارحون -رحمهم الله- كابن إبراهيم الإمام العلامة محمد بن إبراهيم في شرحه وغيره قال: وهذا القيد، وهو قوله: على ما توجبه الشريعة، مخالفة ومفارقة للخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل الضلال، الذين ينكرون المنكر ويرون من إنكار المنكر: الخروج على ولاة أمر المسلمين.
فلو تأملنا في هذه الأحاديث اللي تقدمت معنا وفي هذه الأحداث، عندنا أحاديث وعندنا أيش؟ أحداث، كلها تدل دلالة واضحة على أن مدار التأريخ لهذه الجماعات والفرق من أبناءِ الجماعات السياسية الإسلامية وغيرها إنما هو اتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحديث عن المنكرات لغرض الوصول إلى السلطة والقرار السياسي والخروج على ولاة الأمر، لِهذا لا عجب أن يقول العلّامة المحدث الخبير بالإخوان المسلمين شيخنا مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله-: لا تتعاون مع الإخوان المسلمين ولو في إنكار منكر ظاهر معلوم تعرف أنه منكر، لأن إنكارهم سياسي، وإنما تنكره أنت بالطريقة الشرعية. هم إنكارهم سياسي.
وخللهم في هذا الباب صعبٌ تتبعه، ولكن مِن ذلك مثلًا: أنهم يُغفِلونَ البدع والأهواء ويركزون على المعاصي الشهوانية، ثم يفعلون انتقاءً بعد هذا الانتقاء، وهو أن يختاروا من المعاصي الشهوانية ما كان له صلة بالأمور السلطانية، سواءً كانت معاصي أو أعياد أو مناسبات أو غير ذلك من الأمور. فحتى في إنكار المعاصي الشهوانية ينتقونها ويفصلونها عن البدع، مع أن السلف -رحمهم الله- قد عُلِمَ من مذهبهم وطريقتهم أن منكر البدع أشد من منكر المعاصي والشهوات.
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى-: باب أن البدعة أكبر من الكبائر، وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ثم ساق حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا قال في شارب الخمر: «لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله»، ثم قال: ونهانا عن الخروج على أئمة الجور مع ظلمهم، ومع هذا قال في الخوارج: «كلاب النار»، وقال: «خير قتلى من قتلوه»، وقال: «شر قتلى تحت أديم السماء». لماذا ساق لك هذه الدلائل؟ لأن هذه المعصية من جهة شارب الخمر قال: «إنه يحب الله ورسوله»، ذلك الظلم من جهة السلطان نهى عن الخروج عليه، ولكن لمّا جاء عند بدعة الخوارج وضلالهم وتكفيرهم ساق الأحاديث المتعلقة بالخوارج. لهذا قال ابن القيم في مدارج السالكين -رحمه الله تعالى- في الجزء الأول منه صفحة (٣٧٨): ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها (أي: للبدعة)، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد.
وهنا فرقانٌ مع فرقان، فإذا كنّا نفارق أهل الأهواء والبدع في باب إنكار المنكرات البدعية والمنكرات الشهوانية، فإننا أيضًا نفارق فرقة أخرى من فرق أهل الأهواء والبدع والضلال وهم الحدادية التكفيرية، فإنهم تحت ستار إنكار البدع والكتب المشتملة على البدع وقعوا في بدع عظيمة وطعنوا في أئمة الدين والسنة. فإذا كان الخوارج في باب المعاصي والشهوات، فإن الحدادية كذلك في باب البدع والأهواء خالفوا أهل السنة في باب إنكار منكر البدعة؛ فكل كتاب فيه بدعة من كتب شروح الحديث والتصانيف جعلوا أن هذه الكتب هي كتب أهل البدع المأمور بإحراقها وإتلافها، وعندهم كل من وقع في بدعة ولو كانت خفية ولو لم تُقَم عليه حجة فلا مراعاة لذلك، فعندهم مسارعة في تبديع الأعيان وتكفير الأعيان، وعندهم أن حتى من ثبت عليه الخطأ غير بدعة يسقطونه ويهينونه، ولو تراجع عن الخطأ لا يقبلونه.
وهذه الأمراض بدأت تتفشى في بعض المنتسبين للسنة، فاليقظة اليقظة، اليقظة اليقظة، والموازنة على الفرقانية في كثير من هذه الأبواب تحتاج إلى مجاهدة، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، نجاهد أنفسنا نحن على أن نبقى على الطريق الحق الوسطِ لا إفراط فيه ولا تفريط.
إنكار المنكر قد ذكر أهل العلم في مواضع عدة -الحقيقة أن المراجع والتوثيق منها كثير جدًّا والوقت ما يسع أو لا يسمح بمثل هذا لكني أختصر لكم- قد عُلِمَ عند أهل العلم أن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوَّلها: العلم. أن يعلم أن هذا أيش؟ منكر، لأن مِن الناس مَن ينكر ما ليس بمنكر! الآن إذا جئت في حديث أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة، عنده أن تصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- منكر لأنه ظُلمٌ ينافي العدل، لَمّا أعطى بعض الناس أموالًا وشياهًا وإبِلاً ولم يعطِ آخرين مطلقًا أو لم يعطهم مثل ما أعطى الآخرين حديثي الإسلام، فقال: يا محمد، اعدل فإنك لم تعدل. إذًا رأى أن هذا من إنكار أيش؟ المنكر، أنتَ أيها المسلم تظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي المنكر؟! فلِذا قال: «ويحك، ويلك، من يعدل إن لم أعدل؟ ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!». يضع الأموال حيث أمره الله، ويأتي هذا فينكر عليه بهذه الصورة!
ولهذا تجدهم يشتدّون في باب المنكرات الأخلاقية وفي نفس الوقت يعذرون ويطالبون بالبدع والضلالات والأفكار الضالة، وأن هذا من الحرية الفكرية، ولا ينبغي مطاردة أصحاب الأفكار وأصحاب الآراء السياسية ولا ينبغي أن يُفعل بهم، وهم أشد وأنكى من أصحاب المعاصي الشهوانية، فيسمونه أيش؟ سجين رأي، صاحب فكر، ناشط حقوقي، غير ذلك من الأمور، وهو يقرر أنواع البدع والضلالات. أما قرر صاحب بدعة "الحرية أو الطوفان" أما قرر على أنه لا يجوز مصادرة الناس آرائهم وأمورهم؟ لكن في باب المعاصي والشهوات يذكرون هذا.
فهذا أنكر ما ليس بمنكر أصلًا، ويصف رسول الله بالظلم! ما كل ما تراه أنت منكرًا يكون منكرًا من تصرف ولي الأمر. فعندنا -بارك الله فيكم- تقسيم خاص بمنكر يصدر من الوالي بشرط أن يكون منكرًا وبشرط أن لا يكون له عذرٌ فيه؛ كأن يكون دفع به ما هو أنكر، إلى غير ذلك. النبي -صلى الله عليه وسلم- أما أقام الحد في القذف على حسان وعلى فلان وفلان من خيار الصحابة؟ هل أقامه على عبدالله بن أُبي؟ لم يقمه، لماذا؟ لأن هنا المفسدة أعظم، وقد رآهم في المسجد كاد أن يقتتل الأوس والخزرج، ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- إقامة الحد على عبدالله بن أُبي؛ تَحمرُّ له أنوف وتقوم بسبب ذلك فتنة، وأقامه على خيرةٍ من المهاجرين أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم-، هل يُعد هذا منكرًا وتمييزًا في الحدود وفي التصرفات؟ سيقررونه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصرِّحون بحقيقة تتلمذهم وانتسابهم على ذي الخويصرة؟ إذًا ما كل ما تظنه أنتَ مُنكرًا يكون مُنكرًا، وما كل مُنكرٍ صدر من الشخص المعين يكون قد استحق الذم عليه، لربما مُدِحَ لأنه يدفع بذلك ما هو أيش؟ أنكر.
وقد ذكر الشوكاني وشيخنا ابن عثيمين في شرح "رفع الأساطين في الدخول على السلاطين" تلكم القصة والواقعة: أن الحاكم وأمير زمنه أراد أن يقتل قاضيًا أو شخصًا ظُلمًا يقتله ظلمًا، فدخل عليه هذا العالم فلم يزل يُهَدِّئ من غضبه، يُهَدِّئ من غضبه، يُهَدِّئ من غضبه، حتى قال له: اجلده وأمام الناس حتى يكون عِظة وعبرة للآخرين. قال: خلاص أعرضت عن قتله وسأجلده بس على شرط، أنت الشيخ فلان بن فلان تجلده معي أمام الناس. قال: أجلده معك. فخرج فجلده فصار الناس يذمّون العالم والأمير يقولون: انظروا إلى هذا العالم، ظالم فاسق يساعد الأمير على ظلمه وفسقه وضرب القاضي، ولا يدرون أنه قد دفع عنه ضَربَ رقبته، لا يدرون أنه قد دفع عنه ضَربَ أيش؟ رقبته.
كذلك إنكار الأقوال الفاسِدة، إنكار البدع، إنكار أخطاء العلماء، كل هذا داخل في إنكار المنكر، ولكن لا بد فيه من العلم، ولا بد فيه من الرفق وهو الأصل، ولا بد فيه كذلك من الصبر والحلم. والعلم به تعرف مراتب المنكرات.
اختيار الزمان والمكان، هذا من الفوارق المهمة في إنكار المنكر، ومن ذلك حديث ابن عباس في صحيح البخاري لمّا قال: كنت أُعَلِّم رجالًا من المهاجرين القرآن -أو أقرئ رجالًا من المهاجرين القرآن- منهم عبدالرحمن بن عوف (وهذه حُط -كما يقول المعاصرون- تحتها عشر خطوط، وإن شئت فوقها، لأن لنا معها وقفات في مناسبات أخرى -إن شاء الله-؛ عبدالرحمن بن عوف ويأخذ القرآن على عبدالله بن عباس ويتعلم بين يديه، وعبدالرحمن بن عوف من كبار الصحابة والعشرة المبشرين بالجنة، هذه ضعها جانِبًا، إن شاء الله يأتي وقتها) فالشاهد: يقول: انتشر.. قال قائل من الناس: لئن مات عمر لنفعلن كذا، ولنولِّيَنَّ فلانًا دون فلان، ولنفعل، (إذًا استشعر قولًا منكرًا سيؤدي إلى مفسدة في أيش؟ في الولاية والأمور) فقال عمر -رضي الله عنه-: لأقومن في الناس وأتكلم (في الحج) فقال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الموسم (يعني: الحج) يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيِّرها عنك كلُّ مُطَيِّرٍ، وألَّا يعوها ولا يضعوها على مواضِعها، فأمهِل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص (أي: في المدينة، هذا انتقاء للمكان ثم انتقاء للأشخاص والأعيان، انتقاء بعد انتقاء) فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت مُتَمكِّنًا، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضِعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقامٍ أقومه بالمدينة... الحديث.
فشاهدي من هذه القصة بين الصحابة -رضي الله عنهم-: هذه مقالة باطلة قالها شخص، أراد عمر أن ينكرها في مكة أمام الناس، فنصحه وأشار عليه أخوه عبدالرحمن بن عوف أن الإنكار لهذه المقالة ستترتب عليه مفاسد، كشف له أبوابًا ما كانت في باله حينها. هذه فائدة الأخ مع أخيه، هكذا ينبغي أن يكون الشيخ مع تلميذه، هكذا يكون الفاضل مع المفضول، هكذا يكون الشيخ مع أخيه وشيخه، هكذا يكون التعامل والتناصح. فتح له أبوابًا، بالتعبير المعاصر: فتح له أُفُقًا أخرى ما كان منتبِهًا لها، لفت نظره إلى زوايا ما كان منتبهًا لها، هذا ما فيه عيب، قال: يا أمير المؤمنين، الناس سيحملونها محامل، وتصير مفاسد أكبر. إذًا ليس من إنكار المنكر حتى للمقالات الباطلة، كم من خطأ ومقالة نسمعها ونجدها وما يمنعنا من إنكارها إلا ما يعلمه الله -تبارك وتعالى- من مراعاة مصالح ومفاسد. هذا أمر ينبغي أن نعرفه، وبالذات المقالات التي تصدر قد تصدر حتى من علماء سنة وهي مخالفة للكتاب والسنة، فالأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في "منهاج السنة"، وذكره غيره.
فالمقصد من هذا أيها الإخوة أن أهل السنة لهم في هذا الباب فرقان ولهم طريقتهم. اليوم لو أردت أن أدلل وأضرب لكم أمثلة على بعض المخالفات التي يراها هو مخالفة ويراها منكرًا كيف يتعامل بها بحسب بيئته، وجدنا منهم من يجعل مسألة كشف الوجه -كما قررها لهم صاحب كتاب "حِراسة الفضيلة" في مقدمتها- يجعل أن مسألة كشف الوجه جوازه من عدمه إنما هي حرب بين الإسلام والعلمانية، ولم تصر راجح ومرجوح بين العلماء! فقاسوا عليها أيضًا، قالوا: باعتبار مجتمع معين، قالوا: وكذلك قيادة المرأة للسيارة هي فرقٌ بين إسلام وعلمانية، ليست راجح ومرجوح بين العلماء، ويجب إدخال هاتين المسألتين في كتب العقائد! أيش هذا؟! معاصي تعاملوا فيها معاملة الشرك، مُختَلَفٌ فيه تعاملوا فيه معاملة المتفق عليه، اجتهادية تعاملوا فيها معاملة الخلافية أو الإجماعية! كل هذا خلل، الساحة مليئة بأمراض واضطرابات وعبث الجماعات الإسلامية السياسية في باب إنكار المنكر بشيءٍ لا يُطاق، وهم قد عُرِف ضلالهم لكن خشيتنا أن يتسرب بلاؤهم -وقد حصل- لبعض إخواننا من أهل السنة وطريقتهم في تناول المنكرات.
المنكر، ذكر أئمة كشيخ الإسلام ابن تيميّة في "الاقتضاء" وابن إبراهيم في "شرح الواسطية" على أن المنكرات الأخلاقية والشهوانية إنما تُنكَر إجمالًا لا بالتفصيل. فتجد مِن مسالك هؤلاء أن يُفَصِّلَ في باب المعاصي والمنكرات الشهوانية حتى يرغبك إليها، ولربما دلك عليها، وقال: يوجد في المكان الفلاني في العمارة الفلانية المعصية الفلانية! وين رايح أنتَ؟! أنتَ تدل!
بل حتى المقالات الفاسدة إذا كان الإنسان في سلامة منها، كما ذكر الدارمي ذلك -وهذا لم يمدني الوقت أيضًا أن أوثقه لكم- فإن في "الرد على الجهمية" للدارمي ذكر عن بعض أئمته وشيوخه -رحمه الله تعالى- قال: حدَّثت ببعض كلام الجهمية في بعض المجالس، فأنكر علي ابن معين وفلان وفلان وفلان، قالوا: الناس في عافية منها. (فليس كل مقالة اطلعت عليها في خاصة نفسك صح أن تذيع الرد عليها، ولو كانت مقالة باطلة، ففرق) قال: فلما شاعت في الناس أقوالهم وانتشرت فيهم شبهاتهم، اضطررنا إلى أن نؤلف هذا الكتاب وغيره في الرد عليهم. هذا يحتاج يا إخوة إلى فقه.
فأهل السنة لهم هديهم لهم طريقتهم؛ من حيث مراعاة الترتيب في المنكرات، من حيث التفريق بين المنكر الذي يمارسه الحاكم وفي سلطته والمنكر الذي يأتيه أفراد الناس، من حيث التعيين والتعميم كذلك، من حيث البدعة والمعصية كذلك، من حيث كونه مُستَتِرًا فإن «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخِرة»، ومن حيث ما يُستر وما لا يُستر. كل هذا بحاجة إلى فقه، بحاجة إلى مجالس، بحاجة إلى توجيه، نحتاج إلى مشايخنا إلى علمائنا إلى إخواننا من طلاب العلم إلى أن يقفوا في هذه المسائل على طريقة السلف الصالح -رحمهم الله-.
في عهد الإمام أحمد كان يوجد رجل اسمه سهل بن سلامة، قد روى الإمام الخلال في "السنة" قال: كان الإمام أحمد -رحمه الله- ينكر الخروج -إنكارًا شديدًا- على الأمراء، وأنكر أمر سهل بن سلامة. وأموره في كتب التأريخ كثيرة، لكن ألخصها لكم: أنه بُدِئَ به أولاً أن يُرى له الرؤى الصالِحة، ثم أظهر الإنكار على كل ما خالف الكتاب والسنة بلسانه، ثم ابتنى له دارًا، وكان معه مجموعة من الناس والشباب يُسَمَّونَ المُطَوِّعَة (مطاوعة هاه) يسمَّون أيش؟ المطوِّعة، لِهذا صار يقال له: سهل بن سلامة المطوِّعي وأصحابه اللي معاه المطوّعة -أي: تطوعوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-، فبنى له دارًا وأصبح يصنع له من الهيبة والحراسة، وبنوا أبراجًا من الجص ووضع عليها حُرّاسًا، فأصبح يصنع له في المجتمع هيبة كهيبة السلطان، ثم انتهى إلى أن قال: أُعلنها صريحة: كل من خالف الكتاب والسنة فإني أُقاتله كائِنًا من كان، سلطانًا أو غيره، لا بد من تطبيق الكتاب والسنة، وكل من خالفَ الكتاب والسنّة نقاتله كائِنًا من كان. فانتهى به الأمر إلى السلاح والقتال، قال: وكان الإمام أحمد ينكر أمره إنكارًا شديدًا.
فأسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لِما يحب ويرضى.
العنوان، أنا أعترف بقصوري وتقصيري، وأرجو أن يُكمِّل شيخنا الشيخ أحمد ويزيد ويضيف ويفتح لنا أُفُقًا ويسلك بنا مشارع ومناهج وطرقًا، نفهم من خلالها كيف نعبد الله على وفق شرعه وهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهدي الصحابة في باب إنكار المنكر. أمّا ما ترونه اليوم في المقاطع وفي المنشور وفي حسابات التواصل الاجتماعي فليس هو من إنكار المنكر على طريقة السنة، ولكن على هدي أهل البدعة إلا ما رحم الله، نعم، بل بعضه داخل في إشاعة الفاحشة في المسلمين وليس من إنكار المنكر، ليس من إنكار المنكر، لقد اختلط وامتزج بجهل أو بعمدٍ من أبناء هذه المدارس والجماعات إشاعة الفاحشة بإنكار المنكر، فأصبحوا.. قد تسأل سؤالًا لعالم فتكون مشيعًا للفاحشة، قد تتحدث عن منكر فتكون مشيعًا للفاحشة، فكيف إذا صوَّرته؟ فكيف إذا أنزلته في حسابك في السناب وفي التويتر وفي إنستغرام وفي الفيس وفي غيرها من الوسائل؟ أنتَ من أكبر المُشيعين للفاحشة في الذين آمنوا، ولا يخفاكم الوعيد على ذلك. الأمور في هذا الباب كثيرة، وأنا أحتاج أيضًا أن نستفيد أنا وإخواني من شيخنا الشيخ أحمد -حفظه الله تعالى- فليتفضل.
· الشيخ أحمد السبيعي:
جزى الله شيخنا أبو العباس -الله يحفظه ويبارك فيه- على هذه الكلمة القيِّمة، التي هي في حقيقتها قد أخذت بِتلابيب الموضوع من جميع جهاته، يعني أخذت بكل ما يتعلق.. ولعل الله -عز وجل- أن يعينني وييسِّر في المستقبل -ليس الآن- أن أُلخِص كلمته في نقاط -إن شاء الله- لتقريب فوائدها، بحول الله وقوته.
ولكن أستطيع أن أُلخِّص شيئًا من عموم هذه الفوائد، فأُبيِّن أن هذا الحُكم العظيم الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- بدلًا من أن يكون آلة ووسيلة لتكثير الخير وتقليل الشر، صار بسبب البدع هو بنفسه يُستعمل في إقامة المنكرات وفي الخروج، يعني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدلًا من أن يُحَقِّق مقصوده الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الطريق للقيام بمنكر عظيم وهو الخروج على ولاة الأمر، الذي حرَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك لو تنتبهون لاستشهادات الشيخ تجدون استشهادات عميقة وعجيبة وراسِخة ومنقولة وأثرية، لم نعتد سماعها في هذا الباب العظيم. يعني اليوم أنا -مثلًا- العصر حاولت أن أتتبع بعض ما قيل في هذه المسألة الهامة، فوجدت عامة ما يُستشهد بِهِ يدور حول قصتين: إذا كان المُتَكَلِّم من أهل السنة فيستشهد بقصة الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في إنكاره على المغول شربهم للخمر وتركهم في ذلك، وإذا كان صاحب بدعة من الجماعات يستدل بالعز بن عبدالسلام وقيامه في وجوه السلاطين. طيب أين آثار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أين هذه الأمور الواضحة البيِّنة في الاستشهاد التي جرى عليها عمل أهل السُّنَّة؟ فهذا يدلك على أن هذا الباب كشأن الأبواب الأخرى في العلم مما يحتاج إلى إحياء بالمعنى الصحيح على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
كذلك فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما المُراد بِهِ؟ الشيخ ذكر شيئًا عادةً يُذكَر دائمًا في الأحكام، يعني دائِمًا إذا ذُكِرَ أي حكم في الأحكام يُقال: إن المراد به أن يُخلَص الدين لله وأن يُتبَع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما معنى هذا الكلام؟ معناه أنه دين يُتدين به؛ مثل ما تذكر الله -سبحانه وتعالى-، مثل ما تتلو القرآن، أنتَ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: عبادة، فإذا كان عبادة فالمراعاة التامة هنا تكون لماذا؟ تكون لمصلحة الدين ورضا رب العالمين، يكون العبادة ماذا وراءها؟ وراءها مصلحة الدين وإرضاء رب العالمين.
لكن صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آلة لإنفاذ غيظ النفوس والانتقام -عياذًا بالله-، صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتسلط على الناس ولإثبات نقص يعانيه من يعانيه في شخصيته أو في كيانه -عياذًا بالله-، صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للوقوف في وجوه ولاة الأمر، وخاصة فيما يسمى بالمنكرات العامة، فصار ينكر المنكرات العامة حتى يُثبِت للنّاس أنه هو القائم بأمر الدين. لا، القائم بأمر الدين.. لمّا ذكر العلماء المعنى الدقيق.. من جملة المصالح التي ذكروها فيما تفضل به الشيخ من الاستشهاد بحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية» ذكروا من معاني ذلك: أن هذا المُصلِح ماذا غرضه؟ غرضه أن ينتصر الحق وأن ينتشر الدين وأن يعبد الناس رب العالمين على بصيرة، ليس له غرَضٌ هو في شخصِهِ، لِماذا؟ لأن هذا هو الواجب، ولأن غرضه هو أن يحصل له حسنات وقرب من الله، هذا الغرض الذي من أجله شرع الله -تبارك وتعالى- الدين، فذكر أهل العلم أن من مصلحة الإنكار في السر على الولاة أن يكون العبد منتفعًا بهذه النصيحة فيحقق الإخلاص فيها، ولذلك لمّا حَرَّمَ الله -عز وجل- بشكل واضح بالنسبة للخوارج الإنكار علانية على الولاة وجد بعض أهل الأهواء ممن ظاهرهم السُّنَّة حيلة صنعها لهم الشيطان: وهو أن يزعموا أنهم ينكرون المنكرات العامة ثم يصبوا ذلك ضمنًا أو لازِمًا على من؟ على ولاة الأمر؛ ما هذا العُريّ الذي على البحر؟ ما هذا الكذا؟ طيب هذا وين راح يصب؟ لو كنت صادِقًا في نصيحتك: أنتَ قد يكون إنسان تمر عليه يقع في منكر، تتلكأ في أن تبتدِأهُ بالإنكار أو لا تُنكِر عليه.
ولذلك فينبغي أن يُعلَم أن هذا الأمر العظيم المشروع الذي هو من كمالِ شريعتنا ومن كمالِ ما بُعِثَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذه أهل الأهواء مطيةً لإنفاذ أغراضهم.
ويعجبني فيما استفدت منه من هذه الكلمة الفائدة المتعلقة بالغُلاةَ والحدادية، وكيف أن اليوم يوجد فِئام ممن ينتسبونَ إلى السُّنَّة يشوِّهون دعوتها وطريقة تقديمها للنّاس، إما بالتفريط بركوب ما تركبه الجماعات من الطموح الفاسد أو بالغلو وبالشدة، وكأن أهل السنة لا يعرفون الحلم ولا الرحمة ولا العلم ولا الفائدة! فهذه الفائدة جدًّا نفسية، والعجيب فيها أن الذي يقدمها بهذا الرقي ويقدمها بهذا الوضوح ويقدمها بهذه النصيحة هو ممن اصطلى بنار هؤلاء الغلاة المتشددين، الذين يغيظهم ما حباه الله -تبارك وتعالى- من النصح والبيان، نسأل الله -تبارك وتعالى- لنا وله الإخلاص والصدق، فلما رأوا منه ما لا يتمشى مع أهوائهم وطموحهم -التي يتخذون من السنة مطية لهم- تسلطوا عليه فصاروا بغلوِّهم يرمونه، ولكن نقول لهم بملء الفم: إن سهامكم مرجوعة في نحوركم، بل هي فاضحة لكم عند أهل السنة الخلص.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وسلم.
· الشيخ أبو العباس:
فيه صور هي مستفادة من كلام شيوخنا، أسأل الله أن يحفظك شيخ أحمد ويبارك فيك وفي الجميع، المعنى الذي أشار إليه الشيخ وهو أراد أن يستشهد بالحديث وما أتمه لأن باله ذهب إلى شيء آخر، أسأل الله أن يتقبل منه دفاعه ويأجره على ذلك ويرزقنا وجميع إخواننا الإخلاص الصدق ومتابعة السنة في كل أمورنا:
قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث «من كان له نصيحة لذي سلطان» قال: «فإن قبل منه فالحمد لله، وإن لم فقد أدى الذي عليه»، إذًا الأمر تعبد وديانة، إنكار المنكر ولو كان بدع ولو كان أخطاء في باب الديانة، ليست سبقًا صحفيًّا؛ أنا أول من رد على فلان، وأنا أول من خطَّأ فلان، وأنا أول من أنكر الأمر الفلاني اللي سوته الدولة! المسألة ليست سبقًا صحفيًّا ولا إثبات وجود، لا، المسألة يراعى فيها موافقة الحكمة الشرعية وتكثير المصالح وتقليل المفاسد. فما دام أنك تبحث فقط عن مجرد السبق دون مراعاة لمسألة المصالح والمفاسد وهل هو.. وتفوت معروف أعظم أو توقع في منكر أعظم، فأنت بهذه الطريقة كشفت عن خبيئة سيئة في نيتك.
إذًا الشيخ مثَّل في مسألة المنكر لما يتحدث: ما هذا العري اللي هكذا! شيخنا ابن عثيمين مثَّل مثالًا قيسوا عليه غيره، وهو ينطلق من هذا المنطلق، قال: نعم، تحدَّث عن تحريم الربا، افعل عشرين خطبة عن تحريم الربا، لكن أن تقول: وهذه بنوك الربا مبانيها أعظم من بيوت الله، وهذه البنوك الربوية لا تبعد عن المسجد الحرام أو المساجد إلا أمتارًا قليلة، وإلى آخره، (ما هذا؟) قال الشيخ: هذا تحريض وتهييج على الولاة. انتبه للفرق: تقيم خطبة عن المنكر الربوي تحريم الربا بالأدلة الشرعية، فإن تعديت هذا إلى أن تقول: صارت البنوك عندنا كذا وصارت البنوك عندنا كذا؛ خرجت عن الطريقة الشرعية. تتحدث عن وجوب الستر والحجاب المعروف شرعًا، فإذا تعديت: ما هذا الذي نراه في مؤسساتنا ووزاراتنا و و إلى آخره؛ خرجت إلى طريق التحريض. فلا بد أن تنظر في طريقة حتى المنكر العام تنكره وأنت على تحريض، ولهذا نبه عليه الشيخ ابن باز، نبه عليه شيوخنا المعاصرون، نبه الشيخ ابن غصون، نبه الشيخ الأطرم، نبه غيره من العلماء -رحم الله من مات ووفق الله من بقي-: تحدَّث عن المنكر عن الربا، تتحدث عن أطره وقوانينه ومبانيه والأمور المتعلقة بالسلطان؛ أنت حرضت أنت هيجت على ولي الأمر.
تحدث عن أي بدعة.. كذلك إنكارك للمنكر لا يكن حوليًا إذا جاءت البدعة والمناسبة البدعية من جهة السلطان، أو إذا جاء المنكر من جهة السلطان فإنكارك له يكون حوليًا، هذا واضح أنه إنكار وتحريض على السلطان وتهييج للناس عليه.
بل أدق من ذلك: نحن نعلم حديث أبي سعيد «من رأى منك منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» وفي الباب أحاديث أخر، الفقه لا يتم إلا بأن تضم الأحاديث والآثار بعضها إلى بعض، يتجلى لك الأمر، ثم قال: «فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، إذًا الإنكار في القلب هنا -لاحظ- أن تبغض المنكر أن تنكره بقلبك، هذا يقطع عليك طريق اتهام الناس أنهم لا ينكرون المنكرات: وأصبح الناس راضين بالمنكرات، وأصبح العلماء راضين بالمنكرات، وأصبح الحكام راضين بالمنكرات! من قال لك؟ هل شققت عن قلوبهم؟! الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحكم للمعذور الذي لا يُنكر إلا بقلبه بالإيمان، كما في حديث ابن مسعود قال: «ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من الإيمان». وهنا تنبيهان مهمان:
الأول: أن قوله: «ليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان»، لا يُفهم منه التكفير، وأن من لم ينكر المنكر بقلبه فهو كافر، كما يقرره عبدالرحمن عبدالخالق في "الحد الفاصل بين الإيمان والكفر" ويقرره غيره من أبناء الجماعات، لا، نبه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في موضعين من كتاب "الإيمان الكبير" قال: لأن الإيمان قول وعمل فلا يوجد عمل يسمى إيمانًا يمكن أن تقوم به في باب إنكار المنكر بعد إنكار القلب. هذا هو المقصود: لا يوجد عمل يسمى إيمانًا ولهذا قال في حديث أبي سعيد: «وذلك أضعف الإيمان» فلم يخرجه من الملة، فالذي يقول: إذا لم تنكر المنكرات بقلبك خرجت من الملة ولم تصبح مسلمًا. طيب، وأيش رأيك باللي يمارس المنكرات نفسه، يعني هو الآن يمارسها ويصير مؤمنًا ناقص الإيمان، والذي يراه لا ينكر عليه بقلبه ويصير كافرًا؟! لاحظت الآن ولّا لا؟ فهذا غير صحيح.
التنبيه الثاني: أن إنكار القلب ذكر بعض العلماء أن منه قالوا: أن لا يكون موجودًا في مكان يزاول فيه المنكر. هذا له قيد، لهذا لما ذكر صاحب "حلية طالب العلم" على أن العلماء الذين يزعمون أنهم مع الولاة وأنهم ينكرون بقلوبهم، (تمام؟ علشان تعرفوا وين رايحة الناس، تحت ستار طلاب العلم وطلب العلم وآداب طالب العلم ماذا يقرَّر لهم؟) قال هؤلاء: نقول لهم: أضعف الإيمان أن تنكروا بقلوبكم، والإنكار بالقلب يكون بأن تخرج من مجلس فيه منكر. قال الشيخ ابن عثيمين معلقًا: هذا فيه نظر، بل حتى خروجي من المجلس الذي فيه المنكر عند الأمير والسلطان لا بد أن يكون يراعى فيه المصالح والمفاسد، فإذا كان خروجي من مجلسه الذي يمارس فيه المنكر سيؤدي إلى ما هو أنكر فلا يجوز لي الخروج، ويبدو أن المؤلِّف موقفه من الولاية فيه شيء غير طيب. أو نحو هذا الكلام، هذا موجود في الشريط الثامن من الأشرطة الصوتية، ولا أدري هل هو باقٍ في المطبوع أم قد ذهب مع المحذوفات سووا له ديليت، لكن الشيخ نبه أن هذا يدل على أن موقف المصنِّف من الولاية ليس كما ينبغي. فحتى إنكار المنكر بالقلب والذي من دلائله أن تقوم من موضع المنكر ما لم يترتب على قيامك ما هو أنكر، وإذا ترتب منكر أشد على قيامك فبقيت وقت مزاولته للمنكر -كان أميرًا أو سلطانًا- أو غيره فأنت مأجور وفي درجات إيمان وفي عمل صالح. لكن الأمر رقابة لله؛ أن الله يراقب من قلبك إنكار أيش؟ المنكر، وليس إثبات مواقف وتسجيل حضور عند الجمهور.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
· الشيخ أحمد السبيعي:
من تمام فائدة الجلوس في المكان الذي فيه المنكر: أن فتاوى العلماء أن هناك أماكن قد توجد فيها منكرات ويكون للمسلم فيها حاجة؛ كأن يدخل سوقًا وفيه موسيقى أو منكرات أو غير ذلك، ما يترك البيع والشراء ويترك منفعته الراجحة من أجل هذا الأمر، ولكنه لا يستمع ولا يقر هذا المنكر، لكن هؤلاء..
طبعًا الأحكام الشرعية -وهذا ينبغي أن ينتبه إليه المسلم- أن الخلل في الاعتقاد يؤدي إلى الخلل في الفقه وفي الأحكام. هذا أمر مهم جدًا، ولذلك ينبغي أن ينتبه إلى هذه المسألة المهمة. ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك في هذه الكلمات وأن يتقبلها منه. وكما قلت لكم: المسألة -كشأن سائر المسائل اليوم- بحاجة إلى أن ندرك أنها بحاجة إلى إحياء سنة وإماتة بدعة، فهذا الباب كذلك. يعني هذه الكلمة لابن عثيمين -رحمه الله-، مَن الذي سمعها مِن قَبل مِن أهل السنة والسلفيين إخواننا؟ قد ما ينتبه لها كثير، فكلمة لابن عثيمين في الصميم وفي أصل البحث لا تكون معلومة لكثير من المنتسبين للسنة! فهذا يدلُّك على عظم أجواء المحاربة لدعوة السنة الحقة، وإلى عظم الغربة، وإذا اشتدت الغربة كان الله -تبارك وتعالى- ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ ويؤيدهم بفضله ونوره وإحسانه.
فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يتقبل من الشيخ -جزاه الله خيرًا-، وأن يفتح عليه، وأن يديم النفع به. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وسلم.