كلمات - الدرس الأول ( حقيقة العدل )


التصنيفات
الشيخ: 
القسم العلمي: 
السلسلة: 
  • الشيخ: الشيخ أحمد السبيعي
  • العنوان: الدرس الأول - حقيقة العدل
  • الألبوم: كلمات
  • التتبع: 01
  • المدة: 15:30 دقائق (‏3.31 م.بايت)
  • التنسيق: MP3 Stereo 22kHz 29Kbps (ABR)
التفريغ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وسلم، أما بعد:

فإن العدل كلمة جميلة رائعة تسر النفوس، وتنبعث النفوس الطيبة لها، ويتوخاها ويتحراها كل ذي نفس شريفة. والله -عز وجل- قد أقام السماوات والأرض بالعدل؛ لأنه هو الذي خلقها بعدله وبحكمته -سبحانه-، وقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على العدل وأمر به في مواضع؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وقوله -تبارك وتعالى- آمرًا بالعدل مع من نبغضهم إما لسبب طبعي أو شرعي، يقول: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [المائدة: 8]، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «إن المقسطين -والمقسطين هم العادلين- إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يدي ربنا يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» (رواه مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص). إذن، فالعدل مأمور به شرعًا.

والعدل، ما هو العدل؟ العدل فيه معان ممكن أن نلخصها في ثلاث:

العدل أولًا: هو فعل الله -تبارك وتعالى- ووصف فعله، كما كان معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- لا يكاد يختم مجلسًا من مجالسه إلا ويقول: الله حكم قسط. فالعدل هو فعل الرب -تبارك وتعالى-.

ثم ثانيًا: هو شريعته التي بعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بعث به من الأحكام العادلة، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115]، فالعدل من صفة الشريعة الأصيلة، فالشريعة وما بعث به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا هو العدل. فمن أراد العدل فعليه بالوحي وبما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة.

ثم الأمر الثالث: أن نتحرى في كل ما يرد علينا أن نحكم بهذا العدل الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا التحري وتنزيل هذه الأحكام مواضعها الصحيحة فهذا من تمام العدل، ولذلك يقول أهل العلم: الحكم بالعلم بالعدل. فمعنى العدل: أي تنزيل الأحكام مواضعها الصحيحة وتحري ذلك، فتنزيل العلم النافع في مواضعه الصحيحة هو قيام بالعدل الذي أمره الله -تبارك وتعالى-، وأقل مراتب هذا العدل: الاحتكام إلى الشريعة وإلى السنة.

والعدل من الأحكام الواجبة عينيًّا على كل أحد، في كل وقت، في كل حال، في كل مسألة؛ لأن الشريعة كلها قد بنيت على هذا العدل. لكن هذا العدل القيام به كلٌّ بحسبه، بحسب ما يرد من تفصيل الأحكام؛ فمثلًا:

• العدل على النفس بعدم إرهاقها بعدم الطعام والشراب على طريقة الصوفية، بطريقةٍ خلاف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.

• أو القزع بأن يقص بعض شعره ويترك بعضه، فهذا نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن مبناه على ظلم الرأس والشعر.

• نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس بين الشمس والظل؛ لأن في ذلك ظلم للجسم بأن يجلس نصفه في الشمس ونصفه في الظل.

• كذلك نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المشي في النعل الواحدة مثلًا، فهذا فعل الشيطان وفيه ظلم، إما ليلبسهما معًا أو ليخلعهما معًا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-.

• مثلًا العدل مع الولد، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، فهنا لا بد من العدل بين الأبناء، وعدم ظلم بعضهم بأن يمنح بعضهم منحة وهبة عظيمة لا يمنحها إخوانه، أما أن يعطي الكبير لعظم احتياجه ما لا يعطي الصغير هذا لا يتنافى مع العدل، فالعدل يقام به بحسبه.

• العدل مع الناس، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ائت الناس ما تحب أن يأتيك الناس».

• العدل في الخصومات المالية، مثلًا: إذا اختلف بائع ومشتري على سلعة، على ثمنها أو على وصفها أو على شي، تنازعوا، من يؤخذ بقوله البائع أو المشتري؟ هنا نحكم بالشريعة ونحكم بالحق فنحكم بقول البائع، نجعل القول قول البائع؛ لأنه هو الأصل المالك للسلعة، ولأن المراد بهذه المعاملة المالية نقل ملكه منها إلى غيره، فيكون قوله هو المقدم.

• وهكذا عدل القاضي -مثلًا- في القضايا التي ترد عليه بأن يستوفي أحوال القضية العينية، ولذلك نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك: «إني أحكم على نحو ما أسمع، فقد يكون أحدكم ألحن بحجته». فهنا العدل يقام به ويعمل به كل بحسبه، في حسب كل قضية.

من عجائب هذه المسألة أو من الأشياء اللطيفة فيها: أن الإمام ابن تيمية -رحمه الله- يدلل على أهمية العدل وعظمه وأنه شأن كبير وأن الله -تبارك وتعالى- يحبه، فضرب مثلًا بأن الدولة الكافرة العادلة قد ينصرها الله على الدولة الظالمة؛ فالمقصود هنا: العدل النسبي، بمعنى أن هناك عدل يقتضي عدم سلب الناس أرواحهم أو أملاكهم من غير نوع حق، فهنا يكون ثمة ظالم ويكون ثمة عادل، فهذا العادل هنا وافق حكم الشرع المحبوب للرب، وليس هذا من الإمام ابن تيمية تزكية للدولة الكافرة، كما فرح بذلك الجماعات الإسلامية السياسية اليوم، فصاروا يطيرون بهذه المقولة كل مطار! فرحوا بها لماذا؟ لأنها وصف لدولة كافرة وبالعدل.

لا، هذا مثل ما ذكر الله -تبارك وتعالى-: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ • فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: 2-3]، فمثل ما يفرح المؤمنون بغلبة الروم على الفرس في ذاك الزمان، فهذا أمر لا يعني تزكية الروم، أن المؤمنين لما يفرحون بنصر الروم معناه أن الروم عندهم مرضيين -عياذًا بالله-؟! ثم أين هؤلاء من الكلام المفصل لابن تيمية -رحمه الله- الذي يفصل ويقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بالعدل والعدل هو شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ولكن هؤلاء الخوارج العصرانيون يطيرون بكل شي يخدم أهدافهم في البحث عن السلطة، ولذلك فأهل الأهواء والبدع ينبغي أن يعلم المسلمون أنهم حرفوا صفات الله -عز وجل- فكيف بالدول وأحكام الشريعة؟ وبذلك نفهم لما يقولون: الحرية قبل الشريعة! كما يقوله قائلهم، فلو أنك فتشت وتحريت فستجد أن أمريكا عند الجماعات الإسلامية السياسية أفضل من السعودية التي تحكم في الأصل بالشريعة -وفقهم الله وجميع ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين-، فهذا دينهم وطريقتهم إلا من رحم الله منهم، وقد يكون في أبواب.

ولذلك ينبغي أن تُفهم الجماعات الإسلامية السياسية على وجهها الصحيح؛ لا يعني وجود أناس يدعون إلى الفسق أو الفجور أو المعاصي أو ما هو أكبر من ذلك أننا نميل إلى أهل البدع والأهواء، لا، ما يجوز حرام. فينبغي أن نفهم أن هذه الجماعات الإسلامية السياسية تبنَّت خروج الخوارج بمادة العلمانيين: الديمقراطية والحرية! فهم شرٌّ من   الخوارج الأولين.

ولو أننا ذهبنا مذهبًا آخر: نظرنا مثلًا إلى ذلكم الرجل الذي طعن في قسمة النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه في الحديث المشهور، فماذا فعل هذا الرجل الذي أنكر على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ استعمل لفظ (العدل)، فقال: اعدل فإنك لم تعدل. ينكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويأمره بالعدل، والحديث معروف، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويحك! ومن يعدل إذ لم أعدل؟!». لكن انظر في هذا الحديث ستجد فيه فوائد مهمة:

أولها: أن العدل لفظ جميل يستميل النفوس، فيستعمله كل أحد.

الأمر الثاني: أن لفظ (العدل) هو آلة الخوارج في الوقوف في وجوه ولاة الأمر.

الأمر الثالث: أن هناك مواضع عادلة قد لا يدركها المسلم، خصوصًا في تصرفات ولاة الأمور وسياستهم في الأحوال المعقدة، نسأل الله لهم الإعانة والتوفيق.

الأمر الرابع: فيه دلالة واضحة جلية على أن العدل ليس هو التسوية بين الأشياء مطلقًا، أو ما يسمى اليوم بالمساواة.

فهذه مسألة مهمة، ولذلك فعلى مر التاريخ من فضل الله -تبارك وتعالى- على المعتصمين باتباع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- المعروفين باسم أهل السنة أو أهل السنة والجماعة أتباع الصحابة، فهم أعدل الناس مع خصومهم وفي كل شي على مر التاريخ -بفضل الله تبارك وتعالى-، وخذ مثالين على عدلهم:

المثال الأول: وهو الأشهر، وهو معاملة ولاة الأمر؛ فأهل السنة يحكِّمون كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السمع والطاعة والصبر وتحريم الخروج وعدم الإنكار علانية، كل أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يطأطئون الرأس للرب ويسمعون ويتدينون بها ويتمسكون بها، أما الجماعات الذين يزعمون تحكيم الشريعة فيخونون الشريعة هنا، فلا يرفعون رأسًا بهذه الأحاديث وبهذه الشريعة، فمن لم يعدل في الاستسلام لحكم الله -عز وجل- كيف سيعدل مع الناس؟!

وانظر إلى المثال الآخر: مثلًا في حكم أهل السنة على ألفاظ أهل البدع ومعاملتهم لأهل البدع، ستجد عدل عجيب ودقة متناهية وبُعد عن أي نوع من البغي والظلم، قديمًا وحديثًا. فمثلًا تعرف أهل البدع والأهواء يحدثون ألفاظ مجملة زخرفية حتى يطلون باطلهم بشيء من الشبه، فالقديمين مثلًا من الفرق قالوا: جوهر عرض غير ذلك، والفرق المحدثة الجماعات الإسلامية قالوا بشمولية الإسلام والتجرد للفكرة والحركة ونفي الظلم، يطلقون ألفاظ قد يكون بعضها فيه إجمال، فأهل السنة والجماعة لما ترى تصرفهم يفصِّلون معهم: تعالوا ماذا تريدون بهذا اللفظ؟ أول شيء يسألون: ماذا مرادك؟ ما يهجمون عليهم. مع العلم أنهم يعلمون أنهم قد قالوا باطلًا، فما يهجمون عليهم لأول وهلة كما يصنع أهل الأهواء، لا، يستفصلون وينظرون في المعاني فما كان منها باطل ردوه وما كان منه حق أثبتوه، وذلك حتى يعدلوا مع القائل وحتى لا يظلموا شيئًا من الحق.

ومما ينبغي أن نتذكره جيدًا وأن ننتبه إليه مليًّا: أن صفة العدل تنبع أولًا من النفس، وذلك أولًا بالقصد الحسن والاستسلام للسنة وإرادة تحكيمها، وذلك لا يتم إلا بتطهير النفس وتزكيتها. فأحرى الناس بالعدل صاحب السنة، وأبعد الناس عن العدل أهل الأهواء والبدع؛ لأن اتباع الهوى يمنع من الرضا بالقدر ويمنع من الرضا بالشريعة، وهذا المنع يدفع صاحب الهوى إلى الامتناع من العدل ويعكر نظره ويفسد بصيرته فيطفف في الموازين، فصاحب الهوى قلبه مضطرب وروحه روح المستدرك الناقد بغير عدل ولا بصيرة، أما صاحب السنة فقلبه طاهر زكي قوي فيه نور الفطرة وينظر بروح الوحي، فنظره صائب وأحكامه عادلة، لماذا؟ لأنه رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، فرضي بالقدر ورضي بالشريعة واستسلم لها، ولذلك هذا الحديث جاء في بعض ألفاظه أنه: «يذوق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا» لماذا؟ وأما صاحب البدعة والهوى فليس عنده هذا الرضى فلا يزال مضطربًا أحكامه متناقضة.

فنسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحنا أولًا: الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، وثانيًا: أن يوفقنا لتعلم العدل الذي أنزله الله علينا وهو الوحي والأثر، وثالثًا: أن يوفقنا إلى أن نحكم بهذا الوحي بعدل وبعلم وبقصد حسن.

والله الموفق، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وسلم.