الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وسلم، أما بعد:
فالكتب هي التي تجمع العلم، وهي الوسيلة للإنسان أن يُجمَعَ له ما يحتاجه في موضوعٍ ما في وقتٍ ما، والكتب لا غُنية للإنسان عنها في تحصيل العلم سواء كان علمًا في الدين أو علمًا في الدنيا، والله -تبارك وتعالى- أيضًا جعل رسالته وكلامه للناس يُجمَعُ في كتاب، فسمَّى القرآنَ كِتابًا في مواضع؛ كقوله -تعالى-: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2]. فالكتب هي آلة عظيمة من آلات المعرفة.
وقد اعتنى علماء الإسلام بهذه الوسيلة فكتبوا في العلم بما يخدمه، كُلٌّ بحسب اجتهاده. وللتصنيفِ أغراض:
-
فمنها: جمع المتفرق.
-
ومنها: الشرح، والتبيين، والتقريب.
-
ومنها: الاختصار في بابٍ ما؛ كما اختصر مثلًا مسلم الأحاديث الصحيحة، والبخاري.
-
أو أحيانًا يُصنَّف في شي من أجل التحرير، والترجيح، وتحقيق في العلم فيه.
فكما قال الإمام ابن تيميّة -رحمه الله تعالى-: إن الأُمَّةَ قد صَنَّفَت فأوعبت في كل فن.
ومن الكتب التي كُتِبَت كتبها بعض أئمة السُّنَّة في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة، اعتقاد أتباع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ الإمام ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- في كتابٍ له سُمّيَ بـ"العقيدة الواسطية". وسبب تسميته بـ"العقيدة الواسطية": أن رجلًا من واسط ألَحَّ على ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- أن يكتب له اعتقاد أهل السُّنَّة.
لأن أهل السُّنَّة أصلًا مبنى اعتقادهم هو الوحي؛ كلام الله وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن لما وجدت الفرق ووجد أهل البدع، وصارت هذه الفرق وصار أهل البدع هؤلاء يحدثون في الدين أقوالًا ينحرفون بها عن ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، فهنا قرر أهل العلم والحق الحقَّ في الأبواب التي اختلف فيها هؤلاء، ثم أيضًا ضمَّنوا بيان الرد على هؤلاء الذين أحدثوا في الدين.
فألَحَّ هذا الرجل، وقال له ابن تيميّة -رحمه الله-: إن الاعتقاد لا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني! فأَلَحَّ عليه إلحاحًا، فجلس ولبى رغبته وطلبته؛ لأن العلماء إنما يكتبون ويتكلمون لوجود الحاجة والمقتضى، وللتقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، ونفع الإسلام والمسلمين. فكتب هذه العقيدة العظيمة المعروفة المشهورة وضمَّنها اعتقاد الفرقة الناجية، التي يقول -رحمه الله تعالى-:
"وقولي: اعتقاد الفرقة الناجية، هي الفرقة التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنجاة، حيث قال: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فرقة، اثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ؛ وَهِيَ مَنْ كانَ على مثل مَا أَنَا عَلَيْهِ اليوم وَأَصْحَابِي»". يقول -رحمه الله-: "فهذا الاعتقاد"، أي: الذي كتبه في هذه العقيدة التي سميت بـ"الواسطية"، يقول: "فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابة -رضي الله عنهم-، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية".
وهذا المعنى الذي بُنِيَت عليه السُّنَّة وبُنيَ عليه الاتباع؛ وهو تحري الحق فيما اختلف فيه، هو المدخل لأتباع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في التدين حتى يعرفوا الحق فيما اختُلِفَ فيه، ولذلك فهم يفرحون جدًّا بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- التي فيها بيان التفرق وبيان الحق، ويحرصون على أن يعرفوا ما هو وصف أهل الحق؛ حتى يكونوا منهم.
أما أهل البدع والأهواء فيزعمون أنهم يوحدون الناس وأنهم لا يريدون التفرق، فيشق عليهم جدًّا هذه الأحاديث ولا يرفعون بها رأسًا، لماذا؟ لأن تسويق بدعتهم وترويج باطلهم لا يتم إلا بالغش، فهم يغشون الناس، أما أهل السُّنَّة فينصحون الناس.
ولذلك ضمَّنَ ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- اعتقاده هذا اعتقاد الحق الذي يجب أن يتمسك به المسلم، فصنَّفَ هذا الكتاب العظيم -رحمه الله تعالى- وبناه على كلام الله وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحرَّى ذلك حتى في الكلام الذي يأتي به؛ يعني غير ذلك فمثلًا: استعمل لفظ (التحريف) وبيَّنَ لماذا استعمل لفظ (التحريف) ولم يستعمل لفظ (التأويل) مثلًا، فقال -رحمه الله- ما حاصله: أن هذا اللفظ (التحريف) هو المذكور في القرآن: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة:41]، فتحرَّى حتى في الكلمات التي يضيفها في بيان هذا الاعتقاد تحرَّى أيضًا ألفاظ الوحي، لماذا؟ لأن الوحي هو المبلِّغ للحق، ولأنه واضح ومبين.
فشمل في هذا الاعتقاد أصول الإيمان الستة: إيمانًا بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، والقدر.
ثُمَّ بّيَّنَ كيف يُعرَفُ الله -جل وعلا-؟ ومن هو الله -سبحانه وتعالى-؟ وما هي صفات الله -تبارك وتعالى-؟ وماذا يجب له من الكمال -سبحانه-؟ فبيَّنَ ذلك من خلال الوحي. فتجده مثلًا لمَّا ذكر هذا الباب وبيَّنَهُ -رحمه الله تعالى- استشهد بالقرآن واستدل بالآيات، فذكر مائة وثمانية وعشرين آية من القرآن؛ حتى يبين لكل مسلم ومسلمة أن معرفة الله من طريق القرآن بما جاء فيه من الألفاظ العربية. ثُمَّ بعد ذلك بَيَّنَ معرفة الله -جل وعلا- من خلال أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فذكر خمسة عشر حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثُمَّ بَيَّنَ -رحمه الله تعالى- ثلاثَ مسائل اختلف فيها أهل القبلة من صفات الله -عز وجل- وهي:
-
مسألة كلام الله، وأن الله -عز وجل- تكلم كما يشاء -سبحانه-، وأن القرآن كلام الله.
-
وعلو الله -عز وجل- على خلقه جميعًا.
-
وأنه -سبحانه- يُرَى يوم القيامة، وأنها أعظم كرامة يكرم بها العبد.
خِلافًا لأهل البدع في هذه الأبواب.
ثُمَّ عرج -رحمه الله تعالى- إلى الفارق بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والخوارج وغيرهم من أهل البدع في الحكم على الناس، فالمسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصير مسلمًا، يجب أن يُعتقد إسلامه ولا يُخرج من هذا الإسلام إلا بأن يأتي بمكفِّر أكبر وتقوم عليه الحجة، فهنا يُحكَمُ بردَّته. أما الخوارج فجاءوا إلى مسألة الإيمان فعبثوا بها بأهوائهم، ثُمَّ أخرجوا الإيمان عن حقيقته الشرعية، خِلافًا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين اعتقدوا أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص؛ قول القلب واللسان، وقول القلب: اعتقاده وإيمانه، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأنه يزيد بطاعة الله. فحّرَّرَ هذه المسألة تحريرًا بالغًا.
ثُمَّ بَيَّنَ أن أهل السُّنَّة والجماعة وسط في صفات الله، وفي أفعال الله، وفي الوعد والوعيد، وفي أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي كل الدين. فوسطيةُ أهل السُّنَّة وكونهم وسطًا مثلما مدحهم الله بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:143]، فهذا مبني على أنهم اعتصموا بالحق فصاروا في وسط الإفراط والتفريط بين أهل الأهواء والبدع.
خِلافًا للوسطية التي تُستَعمل في هذا الزمان، فهي تُستَعمل استعمالًا سياسيًّا، فيسلك من يرفع رايتها أنه يراعي ويسلك بطريقةٍ لا تغضب عليه بها الجماعات الإسلامية السياسية! فكيف تُخدَمُ وسطية أهل السُّنَّة دون إغضاب لأهل البدع؟! لأن وسطية أهل السُّنَّة هو الحق المضاد لأهل البدع، فحين يسلك الإنسان مسلك الحق ويجهر به فسيعادي الباطل، فأما المسلك الذي تُستعمل فيه هذه اللفظة فإنها مُزِجَت بشيءٍ من السياسة وشيءٍ من التغاضي وشيءٍ من الترتيبات، التي أخرجتها عن مضمونها وحقيقتها الناصعة الواضحة.
وتحرَّى -رحمه الله تعالى- كما سبق في ألفاظه أن يأتي بالألفاظ الواردة في الوحي، وعَقَدَ الفصول التي خالف فيها أهل البدع وقرر فيها الحق من المسائل المتقدمة، ثم بَيَّنَ فصولًا في الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون بعد الموت، والقيامة وما جاء فيها من الأهوال، فكل ذلك يصدق به أهل العلم أتباع أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثُمَّ بَيَّنَ الحق في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجوب ولايتهم، وأن أفرادهم قد يقع منهم الخطأ ولكن يجب السكوت عما بدر بينهم؛ لأن هذا هو الحكم العدل الذي أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي؛ فَأَمْسِكُوا»، ولأن لهم من السابقة والفضيلة الشيء العظيم.
ثُمَّ بَيَّنَ -رحمه الله تعالى- مسألة هامة في الاعتقاد: وهي القدر، فَبَيَّنَ أن الله على كل شيء قدير، وأن الله بكل شيءٍ عليم، وأن الله خالق كل شيء، فالله يعلم كل شيء وكتب كل شي، ثم يقع ما يقع بحسب تقديره -تبارك وتعالى-.
وبَيَّنَ أن العباد فاعِلون حقيقة، مسؤولين، هم الذين يقومون بأفعالهم، وأن الله -جل وعلا- هو خالق أفعالهم، ولا تعارض بين هذا وهذا، وبَيَّنَ الانحراف الذي حصل في هذا الباب المهم؛ من التسليم بمقادير الله، والرضا بقضائه وقدره.
وبَيَّنَ -رحمه الله تعالى- أشياء وأشياء، إلى أن جاء -رحمه الله تعالى- أيضًا -ولم يُحابِ أحدًا- فَبَيَّن شيئًا مما وقع فيه قديمًا خِلاف بين أهل السُّنَّة، لكنه تكلم بوضوح وصراحة كعادة أهل السُّنَّة، وهي مسألة: أيهما يقدَّم عثمان أو علي؟ فَبَيَّنَ أن خِلافًا قد طرأ في ذلك، لكنه استقر -كما يقول رحمه الله- أمر أهل السُّنَّة على تقديم عثمان ثُمَّ علي. ثُمَّ بَيَّنَ أن المهم أن يؤمن بفضل هؤلاء جميعًا، وترتيب فضلهم، واعتقاد أنهم هم الخلفاء الراشدين بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا يبين لك أن أهل السُّنَّة ليس عندهم شيء يكتمونه من أمرِ دينهم، وأنهم واضحين صريحين، خِلافًا لأهل الأهواء والبدع.
ثُمَّ بَيَّنَ تولِّيهم وموالاتهم وحبهم لأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع الإمساك عما شجر بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبَيَّنَ أن ما يُروى في هذه الأبواب عنهم:
-
إما أنه كذب.
-
وإما أنه حُرِّفَ فيه.
-
وإما أنه يكون من المسائل التي يجتهد فيها الصحابة، فقد يخطئ وقد يصيب.
ولكنهم لا يعتقدون -كما يقول رحمه الله- أن كل واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر.
ثُمَّ إنه -رحمه الله تعالى- بَيَّنَ أن الله -عز وجل- قد يقضي لبعض عباده أمرًا خلاف عادة الأشياء بحكمته، يمد أولياءه بما يعرف بكرامة الأولياء، وأن هذا حق في أصله لكن على النحو الذي يؤمن به أهل السُّنَّة، لا بالتوسع وبالتخريف الذي أدخله الصوفية في دين الله -تبارك وتعالى-.
ثُمَّ بَيَّنَ أمرًا مهمًّا للغاية، وهو أن الواجب في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباع سبيلهم، ولذلك قال: "ثم من طريقة أهل السُّنَّة والجماعة اتباع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المهدّيينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ ومُحْدَثَات الأُمور»".
ثم بعد ذلك بَيَّن بعض فضائل أهل السُّنَّة والجماعة؛ من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومن تعاونهم على البر والتقوى، ومن الصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا عند القضاء، ودعوتهم لمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وكذلك أنهم ينهون عن الفخر والخُيلاء والبغي والاستطالة على الخلق، ويأمرون بكل ما أمر به الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -رحمه الله-: "لكن لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديثٍ عنه أنه قال: «هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشَّوب هم أهل السُّنَّة والجماعة".
فرحمه الله -تعالى-، وجزاه الله خير الجزاء.
وهذا الكتاب حَريٌّ أن يقرأه المسلم قراءةً متدبرة من أوله إلى آخره، مرتين وثلاث بتركيز وقوة، ثُمَّ سَيُلِمُّ -بحول الله وقوته- بأصول اعتقاد أهل السُّنَّة المُطابِقة لِظاهِرِ كلام الله وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فنسأل الله -جل وعلا- أن يغفر للإمام ابن تيميّة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والقلب الخاشع، والعمل الصالح.