إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا • يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فحيا الله إخواني، ووفقنا الله وإياكم للعلم النافع، وسددنا في أقوالنا وأفعالنا على السنة المباركة. فهذه دروس في تفسير سورة النور، أبتدئها اليوم معكم على سبيل المذاكرة لنفسي أولًا ولإخواني، فأسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا ويمن علينا في فهم كتابه -تبارك وتعالى-، ويفتح علينا أبواب العلم والعمل، والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
فأقول مستعينًا بالله: هذه السورة هي سورة النور، وهي سورة مدنية. والفرق كما هو معلوم عند كثيرين من طلبة العلم بين المدني والمكي من القرآن: أن المكي ما نزل قبل هجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة سواء نزل في مكة أو في غيرها، وأن المدني من القرآن هو ما نزل بعد هجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة سواء نزل في المدينة أو غيرها. ومعرفة المكي والمدني من القرآن من الأهمية بمكان، وينبني عليها فوائد كثيرة كما هو معلوم عند أهل العلم من أهل التفسير وغيرهم، ومن ذلك أن يعرف الناسخ والمنسوخ بحسب مواقع نزوله تقدمًا وتأخرًا مكيًّا كان أو مدنيًا. وهذه السورة الكريمة سورة النور هي من أواخر ما نزل في المدينة من سور القرآن، كما سيأتي في آيات منها الدلالة والبيان على تأخر نزول هذه السورة المباركة عن غيرها من السور التي نزلت في المدينة، فهي من أواخر السور التي نزلت في المدينة، كما سيأتي بيانه في موضعه من هذه السورة المباركة -إن شاء الله-.
فإذا قدمنا هذه المقدمة، فأشرع الآن في تأويل ما تيسر من آي هذه السورة المباركة:
يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور:1].
فقوله -تبارك وتعالى-: (بسم الله الرحمن الرحيم)، تقدم معنا ولله الحمد في تفسير سورة البقرة معنى (بسم الله الرحمن الرحيم)، وألخص ذلك فأقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أي: أبتدئ قراءتي مستعينًا باسم الله الرحمن الرحيم، فتكون جملة فعلية إذا قدرت: أبتدئ قراءتي، وإذا قدرت: قراءتي ببسم الله الرحمن الرحيم فتكون حينئذ جملة إسمية، وعلى كلا التقديرين فلا بد من مقدَّر لتعلقه بالباء أي بحرف الجر (باسم) الباء، فإن قدرتها جملة إسمية قلت: قراءتي مبتدأة ببسم الله الرحمن الرحيم، وإذا قدرتها جملة فعلية قلت: أبتدئ قراءتي ببسم الله الرحمن الرحيم.
ومعنى (بسم الله): الاسم هو ما تسمى الله -عز وجل- به، كما جاء الحديث عند الإمام أحمد وصححه الألباني وغيره: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» الحديث، فقوله (بسم الله): أي أقرأ أو قراءتي ببسم الله الرحمن الرحيم.
و(الله): هو اسم للرب -جل وعلا-، وهو أشهر أسماء الرب -تبارك وتعالى- عند عامة المسلمين، وقيل بأنه مشتق وأن أصله: الإله، فخففت الهمزة الواقعة بين اللامين فقيل: الله، وأصله: الإله. وقيل: إنه غير مشتق، بل هو اسم جامد لم يشتق من شيء سمى الله به نفسه. وهذان قولان قد ذهب طوائف من أهل العلم من المفسرين وأهل اللغة وغيرهم إلى كلٍّ، بعضهم إلى واحد من هذين القولين وبعضهم إلى الآخر.
و(الرحمن): هو اسم الرب -جل وعلا-، وهو يدل على الكثرة والسَّعة؛ كدلالة غضبان وريان وجوعان وشبعان، فيدل على الكثرة مما اشتق منه.
و(الرحيم): على وزن فعيل، فيدل على الاستمرار والثبوت، فالله كثير الرحمة دائمها غير منقطع عن عباده من رحمته.
وزيادة التفصيل في قوله -تبارك وتعالى- (بسم الله الرحمن الرحيم) تقدم معنا -ولله الحمد- في مواضع عدة من التفسير من سورة البقرة وغيرها، فاجتزأت بهذا الاختصار فيما يتعلق ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال الله -جل وعلا-: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور:1].
فـ(السورة) وما اشتق من هذا المسمى؛ كالسُّورِ، وما تفرع عن ذلك من الكلمات التي هي من أصل هذه الحروف، فهي دلالة على الظهور والعلو والارتفاع والمكانة، فقيل: سميت سُوَر القرآن سورًا لشرفها،كارتفاع السُّورِ وظهوره. وقيل: سميت سورًا لما فيها من بيان ودلالة أحكام وظهورر، كالسور المرتفع. وقال بعض أهل العلم: بل مسمى السورة يشمل كل هذه المعاني؛ فإن بعضها لا يعارض بعضًا، فيكون معنى السورة من حيث اللغة: الأمر الظاهر البيّن ذو الشرف والمكانة العالية.
﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾: أنزل الله -عز وجل- القرآن، وقد استدل عامة أهل السنة بالآيات التي عبرت عن نزول القرآن بـ(الإنزال) على علو الرب -جل وعلا-؛ إذ نزل كلامه من السماء من العلو، ففيه الدلالة على علو ربنا -عز وجل-، وأنه فوق خلقه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، كما قال -تعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]. كذلك استدل أهل السنة بقوله ﴿أَنزَلْنَاهَا﴾ وأضراب هذا اللفظ على معنى أن القرآن كلام الله -تبارك وتعالى-، وأنه تكلم الله به -عز وجل- صوتًا وحرفًا، وهذا اعتقاد أهل السنة لا يختلفون فيه.
﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾: والفرض في لغة العرب على معان: فرض ألزم، فرض قطع. ومن ذلك قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ﴾ [القصص:85]، فالله -جل وعلا- فرض القرآن على نبيه وعلى أمته؛ أن يتمسكوا بما فيه، وأن يتبعوا أوامره، وأن يجتنبوا نواهيه.
قال الله -جل وعلا-: ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾: فالله أنزل سورة النور ثم فصَّل وصف آياتها بالإنزال أنه أنزلها ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، آيات الكتاب بينات واضحة جلية لا إشكال ولا شبهة فيها، والآية في لغة العرب كما هو معلوم: العلامة والبينة، وآيات القرآن هي الآيات التي تنتهي بفواصلها، فكل واحدة منها آية وجمعها آيات. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: أي ظاهرات الدلالة، واضحات البيان، لا خفاء فيها ولا إشكال.
﴿لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: أي إذا تمسك الإنسان بكتاب الله حصل له التذكر، و(لعل) في كتاب الله كما يقول أهل العلم: هي للتحقيق، محققة أي: متى التزم العباد بما فرض الله في كتابه تحقق لهم التذكر، وأما (لعل) في غير كلام الرب فهي للرجاء؛ قد يحصل المقصود وقد لا يحصل. ومما يؤكد أن (لعل) في كلام الرب -جل وعلا- للتحقيق: قوله تعالى: ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [الإسراء:79].
فهذا ابتداء درسنا لسورة النور مختصرًا، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه وسنة نبيه.