الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثاني من اللقاءات المعنونة بـ"مختارات من كتاب الشريعة" للحافظ أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، المتوفى عام ستين وثلاثمائة من الهجرة (٣٦٠ هـ) -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: «باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفُرقة، بل الاتباع وترك الابتداع». أي: الشأن يكون بالاتباع وترك الابتداع.
هذه أبوابٌ يذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- لتقرير أصلٍ عظيم من أصولِ ديننا، وهو صمام أمان لهذه الأمة، وهو سبب عظيم من أسباب قوتها وتماسكها وعزتها، وهذا الأصل العظيم قد دلت عليه الأدلة من القرآن والسنة على أوجهٍ شتى، فمن ذلك:
• أن الله -عز وجل- أخبر أن الأُمم قبلنا خالفوا هذا الأصل فهلكوا.
• ثم الوجه الذي يليه: أن الله -عز وجل- نهانا أن نكون مثل تلك الأمم وأن نسلك ما سلكوه فنهلك كما هلكوا، ونهانا ربنا -عز وجل- وحذرنا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أن نسلك طريقهم وأن نفعل فعلهم فيلحقنا من الذم والوعيد والهلاك مثل ما لحق بهم، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:٤٦].
• والوجه الثالث: أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي أمته خبرًا يتضمن تحذيرًا لهم وزجرًا وتنبيهًا، ألا وهو أن الفرقة والخلاف وهذا الفعل المذكور عن الأمم قبلنا لا بد أن يوجد في هذه الأمة من يقع فيه، ومن يدعو إليه، ومن يحسِّنه للناس ويقيم الشبه ويقيم ما يظنه أدلة على حسنه -نسأل الله العافية والسلامة-، إلا أن الله -عز وجل- قد أقام للحق دلائله وبراهينه.
لا شك علمتم أن هذا الأصل والمراد هو الاجتماع والألفة ونبذ الخلاف والفرقة، هذا الأصل هو لزوم جماعة المسلمين، هذا الأصل نجاةٌ من الفتن، وعصمةٌ من الضلال، وقوةٌ بعد ضعف، هذا الأصل العظيم به تجتمع الكلمة، وتقوم المِلة، ويُحفَظُ دين الناس، وتسلم لهم دنياهم، ألا وهو لزوم الجماعة وترك الفُرقة والاختلاف والمنازعة.
بدأ المؤلف -رحمة الله علينا وعليه- بهذا الباب المهم، وأتبعه بثلاثةِ أبوابٍ كلها لتكريس هذا المعنى وتثبيته في صدور المؤمنين، حتى يعلموا علم اليقين أن الله -عز وجل- قد نهاهم عن الفُرقة والمنازعة ومفارقة الجماعة، وما نهاهم الله عن ذلك إلا لعلمه -جل وعلا- بما يترتب على ذلك من الضرر في دين الناس ودنياهم.
والجماعة التي أُمِرنا بلزومها تطلق على معانٍ، يهمنا الآن أن نذكر منها ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: أن الجماعة تطلق ويراد بها الحق نفسه.
فأنت تؤمُّ الحق وتقصده بغض النظر عن قائله والناطق به، فإن الحق هو قصدك ولا يهمك بعد من قال بهذا الحق ما دام قد قام الدليل على هذا من الكتاب ومن السُّنَّة ومن آثار الجماعة الأولى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر العشرة، بقية أهل بدر وأُحُد والشجرة -رضوان الله عليهم أجمعين-. فأنت إذا علِمتَ الحق في مسألة علمية أو عملية فلا يضرك بعد ذلك مَن وافق هذا الحق من صالحٍ أو طالح، والحق مقبولٌ لأنه حقٌّ وإن كان القائل به زنديقًا، والباطل مردودٌ وإن كان القائل به صدِّيقًا. فالمقصد: أن الجماعة هنا بمعنى الحق، فالجماعة: الحق ولو كنت وحدك. فهذا المعنى الأول، وهذا نحن مأمورون بلزومه في كل حالٍ من أحوالنا؛ في ليلٍ أو نهار، في حال حضرنا وسفرنا، وفي مسائلنا العلمية والعملية، علينا أن نؤمَّ الحق ونقصده، وأن نبحث عنه من منابعه ومصادره: كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة.
المعنى الثاني للجماعة: الصحابة -رضوان الله عليهم-.
فهم الجماعة الأُم، والأصل، والرعيلُ الأول الذين يجب أن نلزم غرزهم، أن نعرف أولًا ما كانوا عليه من العلم والعمل، ما كانوا عليه في بابِ التدين الصحيح، وما كانوا عليه في بابِ الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما كانوا عليه في الاعتقاد والسنة، وما كانوا عليه في كل أمور دينهم، أن نعرف ذلك ثم نلزمه وندعوا الناس إليه بعد أن نقيم ذلك في أنفسنا. فهذا هو المعنى الثاني للجماعة كما سيأتي في بعض روايات حديث الافتراق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفرق الثنتين والسبعين أو الثلاث والسبعين قال: «كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلاَّ وَاحِدَةً» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «الْجَمَاعَةُ». وفي رواية أخرى قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»، وتأمل في هذا القيد: «الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي». وسيأتي إن شاء الله من الآثار ما يوضح هذا المعنى.
المعنى الثالث للجماعة التي أُمِرنا بلزومها ونهينا عن مفارقتها: هي جماعة ولي الأمر؛ السلطان المسلم القائم مع رعيته.
فهذه جماعة المسلمين، فلا يجوز مخالفتها ولا الخروج عن هذه الجماعة؛ لا بتنظيمٍ، ولا بشعارٍ، ولا بمنازعة السلطان في سلطانه. وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المعاني الثلاث، سيأتي بيانها بحول الله -تبارك وتعالى- في اللقاءات القادمة بإذن الله -عز وجل-.
أبدأ بالوجه الأول من الأوجه التي حذرنا الله -عز وجل- بها: الوقوع في الفرقة ومفارقة الجماعة.
قال محمد ابن الحسين -رحمه الله-: «إن الله -عز وجل- بمنّة وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى أنهم إنما هلكوا لمّا افترقوا في دينهم، وأعلمَنا مولانا الكريم أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة والميل إلى الباطل الذي نُهوا عنه إنما هو البغي والحسد بعد أن قد علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فِرقًا فهلكوا».
هذا الوجه الأول، وقد دلت عليه أدلةٌ كثيرة من كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ مثل قول الله -عز وجل-: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة:٢١٣] فذكر الله -عز وجل- البغي -نسأل الله العافية والسلامة-، وقال -تبارك وتعالى-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران:١٩]، وقال -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس:٩٣]، وقال -تبارك وتعالى-: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى:١٤].
والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ أن سبب هذه الفُرقة والبُعدِ عن الجماعة هو البغيُ والحسد، وهذانِ السببان أحدهما وهو الحسد يؤدي إلى الآخر وهو البغي غالِبًا. فهذا البغيُ إما أن يكون من أجل الدنيا وفي طلبها، وإما أن يكون في الدين؛ كبغي من يحمل العلم ومن ينتسب إليه ومن يُظهِرُ التدين، فالبغيُ والظلمُ حرامٌ في كل حال على كل أحدٍ لكل أحد، لم يبحه الله -تبارك وتعالى- في حالٍ من الأحوال. والحديث عن البغي والحسد وأثرِهما في الفرقة ووقوع النزاع والشِقاق يطول، ولعل ذلك يكون في موضع آخر إن شاء الله -تبارك وتعالى-.
ثُمَّ بعد هذا الوجه الذي أخبرنا الله عمن قبلنا: فقد نهانا مولانا -عز وجل- أن نقع فيما وقعوا فيه فنهلك كما هلكوا. كما في قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:١٠٥]، وقال -تبارك وتعالى-: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:١٥٣]، وقال -تبارك وتعالى-: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ • مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:٣١-٣٢]. فهذه الآيات وغيرها مما يدل على ما دلت عليه من نهينا عن أن نتشبه بالأُمَمِ قبلنا، فنقع في ما وقعوا فيه من الافتراق والبغيِّ والخروج عن الجماعة، فنهلِكَ كما هلكوا -نسأل الله السلامة والعافية-.
ونسأل الله -عز وجل- أن يحفظنا في ديننا ودنيانا، وأن يحفظنا بالإسلام والسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ويبقى معنا جزء من الحديث نؤجله إن شاء الله -تعالى- إلى اللقاء القادم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.