الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وسلم، أما بعد:
فمن المعلوم أن الحق والدين الصحيح لا يقوم إلا على شيئين:
الأمر الأول: تقرير الحق ومعرفته، ومعرفة مراد الله ودينه وما يرضيه.
والأمر الثاني الذي لا بد من القيام به: نقض الباطل ورده وقمعه وجهاده، وما يعرف اليوم بالنقد، فهذا لا بد منه، ولذلك فهو موجود في كلام الله -تبارك وتعالى-. ولكن النقد العادل المبني على العلم والعدل والقصد الحسن ووزن الأمور بالكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة، فهذا يحتاج إلى علم وقصد حسن، ويحتاج أيضًا إلى تقدير صحيح حتى يكون سببًا في الخير؛ خير قمع الباطل وتبيينه، ورد هذا الشر أو الخطأ أو البدعة أو النقص.
وكلنا قد مر عليه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد، فهذا الأعرابي -رضي الله عنه وأرضاه- صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مستنكَرًا في قومه أو في عرفه أن يبال بهذه الطريقة في تلك الأزمنة، ولم يكن على دراية وعلم بأن المساجد -وإن كان المكان نائيًا من المسجد أي في زاويته البعيدة ونحو ذلك- أن يكون ذلك مستنكرًا، فقام بهذا الفعل. وكان هذا الفعل عند من استقر في قلبه وفي إيمانه وفي علمه أن هذا الفعل لا ينبغي في المسجد، وأن المساجد ينبغي أن تطهر من مثل ذلك، فرأوا هذا الأمر فاعتبروه منكرًا، فبادروا إلى الإنكار عليه بشيء من القوة، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد ذكر أهل العلم أن نهيهم سببه -أو من سببه- أن الإنكار عليه حال بوله سيقتضي أن ينتقل بوله من مكان إلى آخر مع الإنكار، فيزيد الطين بلَّة ويزيد المفسدة مفسدة، فتركُه في مفسدة معيَّنة خير من جعل هذه المفسدة تنتشر وتزيد. فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذَنوب من ماء -يعني دلو مليء بالماء- فأهريق عليه فحصل التطهر، ثم بين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المساجد لم تُبن لهذا ولا تصلح لهذا، فانفتح قلبه -رضي الله عنه وأرضاه- فدعا بالرحمة، لكنه خص هذا الدعاء بالرحمة له وللنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا أبدًا» فخص -رضي الله عنه وأرضاه- الدعاء بالرحمة له وللنبي، لماذا؟ لأن البعض قد بادر بالإنكار عليه على وجه جعله يخص الدعاء بالرحمة لنفسه وللنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يدعُ لأولئك الذين بادروا بالإنكار عليه -رضي الله عنهم-، مع العلم أن الدعاء باب واسع من الخير ورحمة الله واسعة، لكن هنا سبب خاص دفعه إلى تضييق هذا الواسع.
كذلك لو رأينا مثالًا آخر: لما كعب بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه- من الثلاثة الذين خُلِّفوا، فلما جاء البشير بتوبته -بادر إليه بعض أصحابه يبشره- فيقول -رضي الله عنه وأرضاه-: فما زلت أحفظ له ذلك. فهنا هذا الإحسان بالتبشير بالتوبة التي نزلت من الله -تبارك وتعالى- على الثلاثة الذين خُلِّفوا، في القصة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في سورة براءة، فهنا هذا الإحسان الخاص من تبشيره بالتوبة كان له أثره في نفسه، فحفظ هذا الود وهذا الفضل لهذا الصحابي الذي بشره.
إذن فهناك أسباب فيما يُظن هي أسباب إساءة وهناك أسباب من الإحسان، يكون لها أثرها في النفوس في المحبة وفي ضدها وفي السعة وفي ضدها، وهي أسباب بعضها شرعي وبعضها طبعي وبعضها فطري.
لكن إذا رأيت هذه الصفة الطبيعية الشرعية في الإنسان السوي، ثم نظرنا في أهل الأهواء والبدع وفي أهل الضلال فسوف تجد أن هذه السعة والضيق لا يُبنى على العدل ولا يبنى على حكم الشرع ولا يبنى على الأسباب الطبعية من الإحسان أو ما يظن أنه إساءة، فلا يُرجع إلى شريعة الله وأحكامه ولا يرجع سلوكهم في معاملة الناس ونقدهم إلى الأسباب الشرعية أو الطبعية أو الفطرية، إنما مرجع ذلك إلى الأهواء التي في نفوسهم وصدورهم. فتجدهم دائمًا وأبدًا يلازم أهواءهم البغي والعدوان بغير حق على المسلمين أو بعضهم في أحكامهم أو سلوكهم وطريقة تعاملهم؛ لما يفرضه عليهم الهوى الذي في النفس والمرض الذي في القلب إلى ذلك، فهذه الاستجابة لدواعي الهوى تدفعهم إلى هذا البغي والعدوان.
ولذلك تجدهم ينقدون كل من يقف حجر عثرة أمام أهوائهم وطموحهم الفاسدة، سواء كان هذا الواقف حجر عثرة بينهم وبين مراداتهم الفاسدة وأهوائهم؛ سواء كان من السلطة المسلمة أولًا، أو أنه ممن يمنعهم من تحقيق مآربهم ثانيًا، أو مَن لا يؤيدهم على ما هم فيه من الأهواء والبغي والعدوان ثالثًا، أو من يعاديهم بحق لأن السنة تفرض عداءهم؛ لأنهم متبعين لأهوائهم في الحكم على الناس والبدع وخارجين عن السنة. فتجد أهل الأهواء والبدع أمام هذه الطوائف الأربع: السلطة المسلمة (ولي الأمر)، من يمنعهم من تحقيق مآربهم، من لا يؤيدهم على ما هم فيه من الأهواء، أو من يعاديهم سواء كان يعاديهم بالسنة حتى أو غيرها؛ فتجدهم ينقدونه، ويلقون عليه أحكامهم الجائرة التي يأخذونها في أصلها من الدين ويمزجونها بأهوائهم، فيستعملون الدين في إطلاق الأحكام على المسلمين تحقيقًا لمآربهم وأهوائهم الظالمة. ومن المعلوم أن أول من فتح هذا الباب من الشر هم الخوارج، الذين ألقوا على المسلمين أحكام التكفير الجائرة، مستعملين الدين في تحقيق مآربهم الدنيئة في السلطة، بعد إعجابهم بأنفسهم وآرائهم.
وأيضًا من الصور الواضحة التي تتكرر في كل الأزمنة وفي هذا الزمان: البغي، والعدوان، والظلم، والخروج عن العدل. فتجد -مثلًا- اليوم الأرض مليئة بالمقولات ومليئة بالدعاة، وكل يوم يُقذف من المعلومات في الدين والمتكلمين الشيء العظيم الكثير، فتجد بعض الناس يترك كل هذا الكم ولا ينقد منه شيئًا، وتجده ينتقي أشخاصًا معينين أو دعوة معينة يخضعها لرقابته ويخضعها لمتابعته لما في نفسه من المرض أو الهوى، وتجده يركز ويبادر لنقدها، وقد ينقد غيرها ولكن لمامًا أو عرضًا ليس بنفس الحماس والقوة والاندفاع الذي ينقد به دعوة معينة وأشخاصًا معينين. وهذا واضح عند العاقل العادل العالم أن هذا النقد نقد غير عادل ولا منصف ولم يراعى فيه مصلحة الدين، إنما باعثه الأهواء؛ بسبب أن هذا المنتقَد إما أنه يفضحه ببيانه، أو أنه يقف حجر عثرة أمام طموحه الفاسد، أو أنه يثير حفيظته، أو يُظهر ما في قلبه من حسد أو مرض.
نعم، قد يركَّز على نقد فرق معينة بحق وبعدل وبعلم؛ لعظم ضررها على الدين والمسلمين، أو خطورة شُبهها. كما ركز السلف الصالح -مثلًا- النقد على الجهمية في زمن السلف، أو الأشاعرة بعد فشوِّ بدعتهم، أو الصوفية لعظم البلاء بهم، أو الإخوان المسلمون في هذا الزمن لأنها أم الجماعات الكبرى الجماعات الإسلامية السياسية، أو التراث لأنها المثال العملي لخيانة السنة بمحاولة إدخال مذهب الإخوان في السنة. فكل ذلك مفهوم وواضح من التركيز على نقد هذه الطوائف والفرق، ولكن ما ليس مفهومًا ولا واضحًا أن تُترك الدنيا كلها بما فيها من كثافة -اليوم- في الباطل والأهواء ليُنقد النهج الواضح الحق، ويُنقد الدعاة القائمين به والداعين إلى السنة، فهذا البغي والعدوان الخاص يدل على اتباع للهوى، أو لأن النهج الواضح -السنة- تفضح هذا الناقد أو تقف حجر عثرة أمام طموحه الفاسد.
إذن فينبغي لصاحب السنة وصاحبة السنة أن يتعقلا المعاني الشرعية الصحيحة في النقد العادل المفيد للدين والمسلمين، وأن يعرفا النقد إذا خرج عن الطريقة المرضية الشرعية السنية.
فنسأل الله -تبارك وتعالى- لنا ولإخواننا السداد والتوفيق في النية والعلم والقول والعمل، وأن يوفقنا إلى ما يرضيه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.