معضلة الباطن والظاهر !


التصنيفات
الشيخ: 
القسم: 
القسم العلمي: 
معضلة الباطن والظاهر !
 
 
من رحمة الله وحكمته أن خلق الإنسان في أحسن تقويم؛ في صورته، وعقله، ونفسه.
 
 
ثم جعل له دينًا يبلِّغه رضوانه في الآخرة، ويطهره ويهديه ويزكيه في الدنيا؛ ويكون منطلقًا له في نظام مصالح دنياه.
 
وجعل نظام الدنيا قائمًا على أسباب مباحة، تتخذ على علم بفائدتها، وتبذل بحزم وقوة وحرص.
 
 
فجمع الله بحكمته للإنسان أن يسير مسارين :
 
 
• أحدهما ديني، مبني على الإيمان والتوحيد والتوكل.
 
 
• ودنيوي، مبني على الأخذ بالأسباب في التعلم وطلب الرزق، وفِي معالجة ومكابدة الحياة.
 
 
والمؤمن يجمع بين السببين بسلاسة دون تناقض، ويجني ثمرة السببين؛ فيحقق مراد الرب من خلقته له عبادة واستعانة.
 
والكافر يأخذ بكل أسباب الدنيا بانهماك واعتماد تام على هذه الأسباب غافلًا غفلة تامة عن أسباب الإيمان والعبادة وتحكيم الشريعة في سعيه الدنيوي. قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾.
 
 
وبين هؤلاء وهؤلاء يتردد ويتردى الخلق:
 
 
• فمن مُتَّخِذ للدين آلة للدنيا (على أنواع أهل البدع الناكرين للأسباب أو المتخذين الأسباب غير المشروعة ).
 
 
• أو المنافقين المتخذين سَنَن الكفار في الجحود وترك الإيمان مع إظهار الإسلام للمسلمين.
 
 
• أو ضعيفي الإيمان الذين تغلبهم نفوسهم وشهواتهم فيصيرون إلى الأخذ بالأمور بترتيب لا يبنى على تحقيق الدين والتقوى، ولا على غش النفس] بالأهواء ] والدخول في دوامة استعمال الدين بإحداث الشبهات ستارًا للأنشطة الدينية المبتدعة غير المشروعة كأهل الأهواء.
 
 
ولا يمكن تجاهل النية والقصد والإرادة هنا ؛ لأن حكمة الله وبديع صنعه اقتضت أن كل عمل اختياري للإنسان وراءه قصد - سواء عقل هو قصده هذا وسيطر عليه ، أم غلبه هواه ومآرب نفسه من حيث لا يشعر - .
 
قال تعالى : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ .
 
وقال : ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾ .
 
 
وبين الظاهر والباطن صلة وثيقة وأثر كبير، جعله الرب تبارك وتعالى دليلًا ظاهرًا على سير الباطن المخفي، قال تعالى: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾.
 
 
غير أن من عظمة هذا الدين وكماله أن جعل الحكم الظاهر هو الضابط للتعامل بين الناس ، والباطن مناط ومرجع حكم الآخرة المناسب للشخص . 
 
والأدلة بحمد الله في ذلك كثيرة ؛ أشير هنا إلى قول عمر : كان الناس يؤاخذون بالوحي ، فمن أظهر لنا علانية حسنة أخذناه بها . وأيضًا قول الله : ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ .
 
 
ولما دخلت الملائكة على صورة البشر على إبراهيم عليه السلام وقدم لهم طعامًا ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أوجس منهم خيفة ؛ لأن إمساك اليد والامتناع عن الطعام منهم كلهم مثير للتساؤل والاستغراب.
 
 
ففيه طبيعية اعتبار القرائن الظاهرة ، وأن هذا هو مقتضى العقل الصحيح والحياة الطبيعية ، فضلًا عن أن اعتبار القرائن في أحكام الشرع أيضًا معتبر بحسبه.
 
وليس معنى الأخذ بالظاهر إهمال النظر في القرائن ، كما يحاول بعض أهل الأهواء أو بعض من يزعُم الصلاح الزائد - على طريقة المتصوفة - أن يفهمه .
 
 
النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يستدل على رضا عائشة -رضي الله عنها- وعلى غضبها بقَسَمِها ؛ فإذا أقسمت برب محمد كانت راضية ، وإذا أقسمت برب إبراهيم لم تكن راضية. 
 
فانظر بالله عليك عظيم دقة هذا الكمال في الملاحظة ، ورقة هذه الآداب في التعبير !
 
 
 والبشر بين الباطن والظاهر في معركة عظيمة ومعضلة جسيمة بين الهوى والضعف :
 
 
• فمن هاجم على الناس بسوء ظنونه ، وإكماله كل نقص في تفسير الأحداث بخيال شرير ، يجنح إلى التأثيم وسوء التقدير ، ولا يرفع رأسًا بحرمة المسلم ولا حقه .
 
 
• ومن زاعمٍ إحسان الظن ، وهو في حقيقته يريد الفرار من زحف الحياة وكراهية ما فيها من الشر والأشرار بإغلاق نافذة عقله ونور قلبه ، ليصير مطروحًا بين يدي البشر يعبثون به كما يشاءون في أغراضهم وأهوائهم ، وهو سالكٌ مسلك ما يزعمه من إحسان ظنٍّ ، وهو في حقيقته إراحة للنفس من مكابدة الحياة والحكم عليها وعلى أعيانها بما يحبه الله ويرضاه . فمثله كمثل من يجعل عجزه توكلًا ، وتركه كد الدنيا زهدًا !
 
 
• والسعيد - وليس غيره سعيدًا - من وفقه الله لجمع أربع :
 
١- إيمان ، وعدل ، وتقوى .
٢- سنة ، واتباع ، وأثر .
٣- علم ، وفقه ، وحسن نظر .
٤- عمل بمجموع الشريعة في كل أبوابها .
 
 
فيُعمل إحسان الظن في موضعه ، والظاهر في موضعه ؛ ملتفتًا للقرائن ، قارئًا للأحوال ، مسيئًا للظن - كما يحب الله - في أهل التلاعب والأهواء والرّيب .
 
 
 
بقلم | الشيخ أحمد السبيعي
الثلاثاء 15 جمادى الآخرة 1438هـ
الموافق 14 مارس 2017