بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
نستأنف الدرس في تفسير سورة البقرة في يومنا السادس عشر من رمضان لسنة 1435 هـ، مع شيخنا الفاضل خالد بن عبد الرحمن– حفظه الله تعالى ووفقه وسدده-، وقبل أن نشرع في تلاوة ما توصلنا إليه من الآيات، فأحبّ أن أنبّه أنَّ عندي بعض الأسئلة سنوجهها –إن شاء الله- بعد التلاوة؛ فيما يتعلق فيما مضى من الآيات.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
}الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿١٤٦﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿١٤٧﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٤٨﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿١٤٩﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥٠﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴿١٥١﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴿١٥٢﴾يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٣﴾وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ﴿١٥٤﴾ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٥﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿١٥٦﴾أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{ ]البقرة:157[.
-السؤال:
-شيخنا الفاضل، هنا سؤال يتعلق فيما مضى عند قوله-تعالى-:}أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{ هل يختص هذا بالمسجد الحرام؟
-الجواب:
-الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
بالنسبة لما تقدم به الشيخ علي-حفظه الله- في السؤال في قوله-تعالى-:}أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ{ الآية فهل هذا مختص بالمسجد الحرام؟ الجواب: لا، هذا ليس مختصًا بالمسجد الحرام، أعني التطهير وتَطيِيب المساجد، فقد ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنّه أمر أن تُطيَّب المساجد، فهذا دليلٌ على أنّ هذا الحكم ليس مختصًا بالمسجد الحرام بل هذا لكلّ مساجد الله - عز وجل-، يجب أن تطهّر وأن تنزّه عن القذر والنجس، وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ كان يصلي ذات يوم فرأى في قبلةِ المسجد نخامة فغضب وحكها -عليه الصلاة والسلام-، وهذا أيضًا من تَطيِيب وتطهير وتنظيف المساجد.
-السؤال:
-هل يدخل في لفظ التطهير إزالة المنكرات من المساجد؟
-الجواب:
-هذا هو المقصود الأصلي من المساجد، المقصود الأصلي عبادة الله -عز وجل-، وأن تكون المساجد بعيدةً عن كلّ ما يغضب الله، وقد ثبت أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم-في الصحيح لما دخل المسجد الحرام وكان حول المسجد النُّصب؛ فطعن- عليه الصلاة والسلام - في هذه النُّصب برمحهِ أو بقَبِيعَةِ سيفه، ويَقرأ قول الله:}قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ]{الإسراء:81[، }قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ{ [سبإ : 49] ، حتى أزالها عن المسجد- عليه الصلاة والسلام -.
كذلك جاء التنبيه على المنع من إدخال ما هو منكر في بيوت الله، وقد ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنّه قال واصفًا لحال النصارى؛ ((أولئك قوم كان إذا مات فيهم الرجل الصالح صَوَّروا تلك التصاوير وبَنوا على قبره مسجدًا، أولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة)).
فلا شك أنّ إخراج المنكرات من المسجد هذا من الواجبات الشرعية، كذلك لا ينبغي أن يكون في المسجد ما يُلهي الإنسان عن طاعتهِ لله، فقد ثبت في الصحيح أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم-صلى وكان في قبلتهِ ما ألهاهُ في صلاتهِ، فأمر النبي- صلى الله عليه وسلم-أن تُنزع، وقال : ((إنها ألهتني في صلاتي آنفًا)).
-السؤال:
-لوحظ في الآونة الأخيرة؛ إدخال جمع التبرعات في المساجد؛ فهل هذا فعل مشروعٌ يُشرع فعله في
المساجد ؟
-الجواب:
-هذا فيه تفصيل:
-أولًا: أن يقوم الإنسان هكذا بنفسه وأن يسأل المسلمين صدقاتهم من تلقاء نفسه لاحتياجه؛ فهذا لا يجوز، فإن المساجد لم تُبنى لِهذا، فالمساجد لم تُبنى ليقصِدها هذا الإنسان أو غيرهُ، سواءٌ كان صادقًا أو كاذبًا ويمدُّ يده للناس وربما يتَّخِذُ هذا مهنة! وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يزال الرجل يحفو في المسألة حتى يلقى ربه وليس في وجههِ مُزعة لحم)).
-الوجه الآخر: أن يقوم ولي الأمر بذلك إمّا بنفسه أو بمن يُنيبه، فيخطُب ويُحثُّ النّاس على التبرع والصدقة فهذا لا بأس به، بل هذا فعلهُ النبى-صلى الله عليه وسلم-، كما جاء فى الصحيح أنّ النبى- صلى الله عليه وسلم-: ((رَأْى قَوْماً مُجْتَابِي النِّمَارِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كلُّهم من مُضَرَ أو عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، فلَمَّا رَأَى ما بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ (من الفقر والحاجة) خَطَبَ النَّاسْ وحَثِّ النَّاسَ عَلْى الصَّدْقّة))، ففى هذا أنّ وليّ الأمرِ قد يقوم بذلك بنفسه يحثُّ النّاس على الصدقات وعلى جمع المال، وهذا مشروعٌ إذا كان على مثلِ هذا الوجه.
ومما ينبغى أن يُفطن له؛ أنّه لا يجوز أن يتبرع الإنسان بأمواله لجمعيات حزبية، أو سياسية تستغل أموال المسلمين فيما لا يجوز شرعًا، وهذا قد لُوحِظ على بعض الجماعات والأحزاب أنّها تجمع الأموال لمقاصد سيئة ولأمور حزبية، حتى أنّ بعضهم كان يجمع أموال الزكاة!!! وهذا حصل عندنا فى مصر، يجمع أموال الزكاة ليؤسس بها مقارًا وأبنية حزبية لحزبه، فهذا يجب أن يُنتبه له.
-السؤال:
-هل يُشرع ختم الأعمال الصالحة بالدعاء الوارد فى قوله -تعالى-، على لسان إبراهيم وإسماعيل:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:127] ؟
-الجواب:
-يُشرعُ أن يدعو بهذا وبغيره، لا أن يُخصّص ختم كلِ عملٍ بهذا الدعاء، فهذا ليس من السنّة، بل من تقصَّد ذلك فُيخشى عليه أن يقع فى البدعة، فإن النبَّى-صَّلْى الله عليه وسلم- لم يكن يقرن بين هذا الدعاء وبين كلِ عملٍ صالحٍ يفعلهُ، وقد ثبت فى الصحيح أنَّ النبى-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كان إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ يسْتَغْفَرُ ثَلَاثًا ثم يقول: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام))، فقد يدعو بهذا:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}[البقرة:127] ويدعو بغيره أيضاً .
:فلنشرع فى تفسير الآيات التى قد تُليت، فليتفضل الشيخ مشكوراً، جزاك الله خير .
-يقول الله –عز وجل-بعد أن ذكر مسألة القبلة، وأنّ الله-تبارك وتعالى- حَّول نبيه –عليه الصلاة والسلام- إلى قبلةِ المسجد الحرام، ثم نبَّه الله نبيهُ فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم} [البقرة:145]: أهواءهم: أهواء اليهود.
-{مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:145]. قال الله بعد ذلك:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}]البقرة:146[، الذين آتيناهم الكتاب هم اليهود، آتاهم الله التوراة.
-{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}: إختلف علماء السلف فى عَودِ هذا الضمير، فى قوله:{يَعْرِفُونَهُ{، من المقصود بأنّهم يعرفونه؟ فقال بعض السلف: كما روى الطَبريُّ وغيره؛ يعرفونهُ أى يعرفون أمر القبلة، وأنّ قبلة المسلمين هى الحقّ فهم يعرفون هذا، وقال بعض أهل العلم؛ يعرفونه: أى يعرفون صدق النبى-صلى الله عليه وسلم-.
والذى تدلُّ عليه سياق الآيات فإنّ الله يقول: {مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}، فالعلم جاء للنبي-صلى الله عليه وسلم- فهم يعرفونه، يعرفون هذا الحقّ والعلم الذى جاء على محمد-صلى الله عليه وسلم-، ولا يرتابون ولا يتشككَّون فى أنّ النبى- صلى الله عليه وسلم- هو المذكور عندهم فى التوارة باسمهِ ووصفهِ، كما قال نبى الله موسى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فهم يعرفون النبي-صلى الله عليه وسلم- وأنّما جاءهُ الحقُّ من الله بإسمهِ ووصفهِ.
-}كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}: أيّ أنهم بلغ قوَّةُ علمهم بمعرفة النبى-صلى الله عليه وسلم- كمعرفتهم بأبناءهم! فإذا رأى أحدهم إبنه يقول هذا إبنى! لا يتشكّك فيه، كذلك لا يتشكّكون فى معرفتهم بالنبى-صلى الله عليه وسلم- لكن هذه المعرفة لم تنفعهم، لأنّهم عرفوا بقلوبهم ولم يقبلوا، ولم ينقادوا لحكم الله.
وهذا الذى يُرَدُّ بهِ على مرجئة الجهمية، الذين يقولون بأنّ الإيمان هو معرفةٌ محضة، حتى فرعون على قول الجهمية يصيرُ مؤمناً، لأنّه عرف الله {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فمرجئةُ الجهمية جعلوا الإيمان معرفةً محضة، وإن لم يقترن بها قبولٌ لحكم الله وإذعان وحبٌّ لله وموالاة، فهذه معرفةٌ تضرُّ ولا تنفع.
-قال الله-جل وعلا-:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿١٤٦﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[البقرة: 147]، هذا تثبيت للنبى-صلى الله عليه وسلم- ليثبُت على الحقِّ الذى جاءه من ربه-تبارك وتعالى- ولا يَمتارُ يتشكّك فيهِ.
-{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا }[البقرة: 148] أى أنّ هؤلاء اليهود إختاروا دين الكفر والضلال، وقصدوا قبلتهم التى يتعبدون الله بها.
وأنّ المؤمنين توجهوا إلى القبلة التى أمرهم بها الله- عز جل-، فلكلٍّ من المتوجهين وجهة يتقصدونها، فقبلة المسلمين هى بيت الله الحرام الذى أمرهم الله-عز وجل- أن يولوا وجوههم شطره كما سيأتي.
-{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة: 148]، لما أمر بالتوجّه إلى القبلة، فالتوجه إلى القبلة يكون فى كثيرٍ من العبادات، فصلاتك إلى القبلة فريضةً أو نافلةً، فريضةً على وجهِ الوجوب ونافلةً إذا أمكن، فى غير السفر. كذلك القبلة يُتوجّهُ إليها فى الحجّ والعمرة .
كما قال-صلى الله عليه وسلم-مبينًا فضل المتابعة والقصد إلى مسجد الله الحرام فقال: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعةً بينهما تنفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)).
-قال الله-عز وجل-:}فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ{ ]148[: وفي هذا تهديدٌ و وعيد لهؤلاء اليهود الذين كفروا بالله-جل وعلا-، بأنّ الله سيجمع الجميع عندهُ للحساب، ولذلك قال تعالى:} يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن{ ]التغابن:9[. فيوم الجمع هو يوم القيامة حيث يجمع الله الجميع ليسألهم كما قال-تعالى-:}فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{ ]الحجر:92[. فلن يدع ربُّنا أحدًا إلاّ سيأتي به ويسأله كما ثبت في الصحيح: ((مَا مِنكُمْ أَحَدٌ إلاّ وَسَيكُلِّمهُ رَبُّه لَيسَ بَينَهُ وَبينهُ تَرجُمَان)).
-قال الله-جلّ وعلا-:}أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ ]148[: فلمّا كان أن يأتي بكلّ الخلق أمرٌ متعلقٌ بصفة القدرة، وأنّه لابدّ لمن يقدر على الجمع وإعادة وإحياء كل هذه المخلوقات التي فنيت واندثرت؛ لابدّ أن يكون متصفًا بكمالِ القُدرة التامّة فقال:}إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{، كما قال تعالى:} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ{ ]فاطر:44[، وحين يَستحضِر الإنسان قُدرة الله فهذا يكون وازعًا في نفسه على أن يجتنّب ما يغضب ربّهُ، وقد ثبت عن النبيّ-صلى الله عليه وسلم- أنّه مرّ ببعض أصحابهِ وهو يضرب عبدًا له، قال: فسمعت صوتًا من خلفي يقول: ((اِعلم أبَا رافِع أنّ الله أَقدَر عَليكَ مِنكَ عَلى هَذا الغُلام)) قال: فالتفت فإذا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-. قال: اِعلم أبَا رافِع كما أنت قادر على هذا الغلام الضعيف، اِعلم أبا رافِع أنّ الله أقدرَ منك مِن قُدرتِك على هذا الغلام، أي أنّك إذا اِستضعفتهُ لقوّتك وضعفهِ فاعلم أنّ الله أقوى وأقدرُ منك.
-قال الله-جلّ وعلا-:}وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام{ ]149[ : فمن حيثُ خرج النبي-صلى الله عليه وسلم-أمرهُ الله أن يُولّيَ وجههُ شطر المسجد الحرام، وقد انتزع بعض الفقهاء من هذه الآية؛ أنّ المصلي إذا صلى نظر بعينيه إلى جهة القبلة واستدلوا بهذه الآية، وذهب آخرون من أهل العلم قالوا المراد: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ]البقرة:149].
المقصود أن يستقبل القبلة في الفريضة، وقد ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنّه كان إذا صلى نظر ببصرهِ أو ألقى ببصرهِ إلى موضع سجوده، فَفِعْلهُ مفسّرٌ للآية، فليس كما يقول بعض الفقهاء منتزعًا من هذه الآية؛ أنّ المصلي ينظر إلى جهة القبلة في الصلاة! لا، خطأ، وإنّما بيان النبي-صلى الله عليه وسلم- بين المراد من الآية، أنّك تستقبل القبلة وأنّك تنظر في صلاتك موضع السجود.
وقد ثبت عند البخاري وغيره أنّ النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به فإذا أراد فريضةً نزل، فاستقبال القبلة في الفرض والنافلة إلاّ ما كان من نافلة السفر، فأنت الآن تذهب إلى السعودية وتمشي بالسيارة فإن أحببت أن تتنفَّل تتنفَّل، سواءً كنت أنت قائد السيارة أو أنت بجانبه، فإنّ النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يقود الراحلة ويتنفَّل وهو يقودها فإذا أراد فريضةً نزل، لأنّ الفريضة يجب أن تستقبل فيها القبلة وأما نافلة السفر فبابها واسع، إن تيسَّر لك الإستقبال وإلاّ صليت بحسب الإمكان، ولا بأس ولا حرج.
-قال الله -جل وعلا-: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:150]: والشطر الجهة، ولذلك ثبت عند الترمذي أنّ النبي-صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَا بَين المشرِقِ وَالمغرِب قِبلة))، لأنّ هذا هو معنى الشطر.
((مَا بَين المشرِقِ وَالمغرِب قِبلة)) يعني أهل المدينة، إذا جَعَلْتَ المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فكلّ هذه المساحة؛ ما بين المشرق والمغرب بأي زاويةٍ اتجهت فيها يَمنةً أو يَسرة مالم تَصِلْ مُشرِّقا ومالم تَصِلْ مُغرِّبا؛ فقد تحقق مقصود استقبال القبلة وهو الشطر.
إذًا ما ينبغي أن يُتكلَّف في تحديد جهة القبلة، فإنّ النبي-صلى الله عليه وسلم- وسَّع في الباب كما رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني وغيره، أنّ النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَا بَين المشرِقِ وَالمغرِب قِبلة)) يعني إذا كنت أنا في المدينة الآن؛ أجعل المشرق على يدي اليسار و المغرب على يدي اليمين فإذا انحرفت بزاوية يُمنى أو يُسرى لا يضرُّ شريطة أن لا أتجه إلى الغرب، وشريطة أن لا أتجه إلى الشرق، لذلك لما كانوا يذهبون ليقضوا الحاجة كما عند البخاري قال-صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ تَستَقبِلوا القِبلة بِبولٍ أو غَائِط ولَكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا))، فإذا كان يقضي حاجتهُ فاستقبل الشرق وهو في المدينة؛ خرج عن شطر القبلة وإذا غرَّب واستقبل الغرب؛ خرج عن شطر القبلة.
وأما ما يُتقصَّد من البوصلة وما أشبه ذلك والتدقيق والتعمّق في ذلك؛ فهو بخلاف ما وسّع الله على المسلمين في شطرِ القبلة.
-قال الله-جلّ وعلا-:}وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ{ ]البقرة:149[: إذًا كان قبل ذلك يستقبل بيت المقدس، ثم أُمِرَ بعد ذلك يستقبل الكعبة، وكلّ هذا عبادة لله –جلّ وعلا-، فليست القبلة مقصودة بعينها، لا قبلة المسجد الأقصى ولا قبلة الكعبة، المقصود من ذلك التّعبّد لله، أمرنا أن نستقبل القبلة؛ أمرنا أن نستقبل بيت المقدس، فدينُ الله قائمٌ على العبودية لله –عزّ وجل-. وهي ليست مسألة إقليمية أو عِرقية أو متعلقة بجهاتٍ أو ببلاد، لا، الأمر قائمٌ على الدين، أُمِرنا أن نستقبل المسجد الأقصى، سمعًا وطاعة، أُمِرنا أن نستقبل الكعبة، سمعًا وطاعة.
-قال الله-جلّ وعلا-:}وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{: نبّهتُ قبل ذلك ما نبّه عليه علمائنا؛ إذا نفى ربُّنا عن نفسه صفة نقص؛ فإنّ المدح ليس لنفي صفة النقص، وإنّما يقول العلماء: نفي النقص مستلزمٌ لضده، مستلزم لإثبات الكمال، فإذا نفى الله عن نفسه نقصا؛ فإنّه يُراد به نفي النقص وإثبات الكمال لله –جلّ وعلا-.
لذلك تأمل:}اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ{ ]البقرة:[255، نفى السِّنة والنوم وأثبت قبلها الحيُّ القيوم، وهو يُجير ولا يُجار عليه، وهو يُطعِم ولا يُطعَم، قال الله: وهو}الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ{ ]الفرقان:58[، فكل نفيٍ للنقص اللَّـهُلَاإِلَـٰهَإِلَّاهُوَالْحَيُّالْقَيُّومُلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَوَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿البقرة: ٢٥٥﴾مستلزمٌ لضدِّهِ وهو إثبات الكمال.
-قال الله –جلّ وعلا-مكررًا ومؤكدا:}وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ{: هذا أمر حصل فيه عند بعض النّاس ريبة وتشكك، وارتاب من ارتاب، فأكّد الله الأمر وأعاد أمره لنبيهِ مؤكدًا؛}وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ {
حيث ما كان المسلم؛ في أي بلدٍ من بلدان المسلمين وفي أي بلدٍ كانت؛ فإنّ جميع المسلمين قبلتهم واحدة، فواجبٌ أن يستقبلوا المسجد الحرام حيث ما كان المسلمون.
وفي هذا معنىً عظيم وهو جمع المسلمين وتآلف المسلمين وتمسّك المسلمين بدينهم، وأن يكون المسلمون أُمةً واحدة، ربُّهم واحد وقبلتهم واحدة لا يتفرقون ولا يتحزبون ولا يتباغضون، هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه أهل الإسلام.
-قال الله-جلّ وعلا-:}وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ{: لما توجّه النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى؛ نفّر كفار قريش النّاس والقبائل منه، قالوا: انظروا إلى هذا!!! لا يُعظّمُ بيت الله وذهب يستقبل بيت المقدس وترك قبلة إبراهيم! فنفر من نفر وأبغض من أبغض دين الله بهذه الحجّة الكاذبة التي يدّعيها كفار قريش، فلمّا أمر الله نبيهُ كما جاء عن جماعة من السلف فيما روى الإمام الطبري وغيره، فلمّا أمر الله نبيهُ أن يعود فيستقبل القبلة انقطعت حجة هؤلاء، فرجع النبي– صلى الله عليه وسلم - واستقبل الكعبة، فلم يبق لهؤلاء حجّة.
كذلك كان اليهود لما استقبل النبي– صلى الله عليه وسلم - بيت المقدس كانوا يقولون أيضًا؛ قالوا: كيف يستقبل قبلتنا وهو يخالفنا في ديننا؟! فأبطل الله أيضًا حجّتهم، فانقطعت حُجج هؤلاء وأولئك، والله – سبحانه وتعالى - يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، حين أمر أن تُستقبل قبلةِ المسجد الأقصى كان ذلك بحكمةٍ منه، وحين أمر نبيهُ أن يستقبل المسجد الحرام كان أيضًا لحكمةٍ منه – عز وجل -.
ولذلك عظّم الله شأن المسجد الحرام، وقد ثبت عن النبي– صلى الله عليه وسلم - من ذلك أنّ الصلاة في المسجد الحرام بمِئة ألف صلاة، وهذا من عظيم ما فضَّل الله به المسجد الحرام.
-قال الله-جل وعلا-:}لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ{ ]150[: ما هي الحجة التي كانوا يحتجون بها وهي حجةٌ داحضة!!!
لمّا رجع واستقبل الكعبة قالوا: رجع إلى قبلتنا فيوشِك أن يرجع إلى ديننا!! فأتوا بحجة جديدة، قالوا: رجع إلى قبلتنا فيوشِك أن يرجع إلى ديننا أي إلى دين الكفر، وهذا يدلُّك على أنّ من طمس الله بصيرته؛ لا يزال يحتجُّ بالحجج التي يردُّ بها حكم الله، فإذا جاء حكم الله لم يَجُزْ أن تقدم عليه حجّة عقلٍ أو غيره، بل عليك الإنقياد والسمع والطاعة لأمر الله-جل وعلا -.
وأمّا الذي يورِد الإشكالات والإعتراضات على حكم الله؛ فهذا له شَبَه بهؤلاء إذا أتاهم حكم الله تعذّروا وتعلّلوا بالحجج الواهيات.
ومن تعظيم الله-جل وعلا – لشأن القبلة أنّه ثبت عن النبي– صلى الله عليه وسلم - كما صحح الألباني وغيره أنّه قال: ((مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وتَفْلَتُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ)) وهذا من تعظيم القِبلة، إذا بسقت اِحذر أن تبسُق تِجاه القِبلة، ومن تعظيم القِبلة ما تقدم في حديث البخاري ((لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ أو غَائِطٍ))، قال أبو أيوب: "فأتينا الشام فوجدنا مراحيض بُنيت تجاه القبلة"، قال أبو أيوب: "فننحرفُ ونَستغْفِرُ الله".
كثير من النّاس يأتي يبني بيته ولا يراعي هذا!! ويجعل موضع قضاء الحاجة مستقبِلًا أو مستدبرًا القِبلة، هذا مما لا يجوز، فلا يجوز أن تُستقبل القِبلة ببولٍ أو غائط، فإن كان قد بُني وانتهى الأمر، قال أبو أيوب: "فأتينا فوجدنا مراحيض قدْ بُنيت تجاه القبلة"، قال أبو أيوب: "فننحرفُ ونَستغْفِر".
-قال الله-جل وعلا-:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ]150[: وهنا يأمر الله-عز وجل- بخشيتهِ، وينهى عن خشية غيرهِ من اليهود وغيرهم:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، لأنّ الأصل أنّ صاحب الحقّ؛ أن يكون قويًا مُلتجئًا إلى الله، لا يخشى أحدًا من دون الله قدر المستطاع، لذلك وصف الله أنبيائهُ فقال:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلّا اللَّـهَ} [الأحزاب:39].
فصاحب الحقّ يجب أن يكون قويًا ينطق به، كما يقول أبو عُبادة: بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ((على السّمعِ والطّاعة في المنشطِ والمكرَه والعُسر واليُسر وعلى أثرةٍ علينا، قال: وعلى أنْ نقولَ بالحقِّ حيثُما كُنّا لا نخافُ في اللهِ لومةَ لائم)). لذلك فإنّ خشية الله- عز وجل- في قلب العبد تدفعهُ إلى الثبات على الحقّ، وإلى أن يصدع بهِ يقصد بذلك وجه الله.
-قال الله-جل وعلا-:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ]150[: فتمام النعمة كما بيّن الله- عز وجل-:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3].
-ثم اِمْتَنّ الله- عز وجل-على ما أنعم على عِبادهِ }كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}]151[: هذه من تمام نعمة الله- عز وجل - أن أرسل إلينا رسولًا، مُبينًا ومُعلِمًا ومُرشِدًا، قال الله جل وعلا- مُرتِبًا أن يُشكر الله على نِعمهِ بالعمل الصالح كما قال الله- تعالى-:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا }[سبإ:13]، فقال هُنا {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة:152]، وقد ثبت في صحيح مُسلم أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم-قال: ))أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))
(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)، إن أَحسَنتَ ظنَكَ بالله، وأَيقَنتَ بفضلِ اللهِ عليك في دُعائِكَ وَظننتَ خيرًا بربِك، وَقَرنتَ ذلك الظنّ مع العمل الصالِح؛لم يُخيّب اللهُ ظَنك، ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).
-قالَ اللهُ –جلَّ وعلا-:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ{ [البقرة:152].
-السؤال:
-هل يصحّ الإستدلال شيخنا الفاضِل بقولهِ-تعالى-:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [ البقرة 148] على إقرار الخلاف في الأُمة الإسلامية؟
-الجواب:
-هذه الآية جاءَت في سياق الردّ على اليَهود، فاليَهود لهم قِبلَة والنصارى لهُم قِبلَة والمسلمون لهم قِبلَة! وبيّنَ الله أنَّ اللهَ سيحكُم بينهم يوم القِيامة، فقال:{أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ [ البقرة 148]، وبيّنَ قبلَ ذلك أنَّ الحَقَّ هو في استقبال الكعبة كما قالَ قبل ذلك {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [ البقرة 147]، فدلّ على أنّ مَن ولىّ وجههُ قبلَةً غير الكعبة فقد ولىّ وجههُ باطِلا، فالآيةُ نفسُها في سياقها الإنكارُ على من خالَف الحقَّ، فكيف يستدّلُ بها جاهل على أنَّ هذه الآية فيها تقريرٌ لكُلِ إنسانٍ على ما هو عليهِ من خيرٍ أو شرّ، كيف ذلك؟!!
اللهُ- جلَّ وَعلا- بَيّنَ في أول الآية في سياقِها وسباقها أنَّ هؤلاء الذين تولَّوا غيرَ هذه القبلة تولَّوا باطِلا، وأنَّ الحقّ فيما شَرَع، مُنكرًا على من توجهَ قبلةً غير التي أمرهُ اللهُ بها، فالآيةُ ردٌ على من قالَ بأنَّ الخِلافة مُقَرٌ بين المسلمين وإن كانَ هذا على حقّ وهذا على باطِل، فاللهُ- جلَّ وَعَلا-يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [ النساء 59]، فلا يجوز أن يُقرَّ الباطِل، بل الواجِب أن يتفق المسلمون في أمرِ دِيِنِهم فيما جاءَ من أصول الإعتقاد، وما وَسِعَ فيهِ الخلاف مما ليس فيهِ نصٌ صريح؛ فهذا يجتهدُ العالِم ليَقرُبَ إلى الحقِّ ما استَطاع.
-السؤال:
-السؤال الثاني: شيخنا كأنّ بعض الأسئلة تتعلق في استقبال القبلة وكأنَّ خُلاصتها؛ أنّ هل العبادات التي تنصّ على استقبال القبلة هل هي توقيفية؟ أو يُشرَع أن يُستقبل القِبلة في غيرِها من العِبادات؟
-الجواب:
-اِستقبال القبلة أمرٌ تَعبُدي، فتُستقبل القِبلة فيما جاءَ فيهِ استقبالها من أمور العبادة، فلا يجوزَ أن تتَكلف استقبالُ القِّبلة فيما لم يُشرع، إيضاحُ ذلِك يعني مثلًا؛ النَّبي-صلى الله عليه وسلم-في خطبَة الجُّمعة عِند الاسْتسقاء، فلما جاء الرَّجل وقالَ هلكتْ كذا وكذا وكذا فادْعوا الله أن يَسْقينا، فَرفعَ يديْه حتى رُؤيا بياضُ إبطيْه كما يَقول أنس ولم يَسْتقبِل القِبلة في دُعائِه هُنا، إذًا؛ فاستِقبالُ القِّبلة متَعلِّقٌ بِما ثَبت في السُّنة في اسْتقبالِها، ولَيسَ أنكَ تَسْتقبِلُ القِّبلة في كلِّ حالْ ممالم يَثْبت في السُّنة!
بعضُ النَّاس حينَ يَنتَهي منَ الحج أو العُّمرة يَستَقبُل القِّبلة ويَرجِع القَّهقَرى لايُعطي للقِبلة ظَهره، وهذا كلُّه منَ التَّكلف والجَّهل.
-السؤال:
-من الأمثِلة؛ هل يُشرع استقبالُ القِّبلة عندَ الدُّعاء وقِراءَة القُّرآن؟
-الجواب:
أما عِندَ قِراءة القُّرآن؛ فَلم يَثبُت أنّ النَّبي-صلى الله عليه وسلم – كانَ يَسْتقبِل القِّبلة عند قِراءة القُّرآن، وقَد ثَبتَ في صحيح مُسلِم أنّ النَّبي-صلى الله عليه وسلم – كانَ يَضعُ رأسَهُ في حَجْرِ على فخِذ أمِّنا عائِشة وهي حائِض، فيَقرأ القٌّرآن وهُو نائِمٌ على فخِذ أمِّنا عائِشة، أيْنَ اسْتقْبالُ القِّبلة في هذا؟!
وكذلِك في صحيح مُسلم ((وأنْزلتُ علْيك كِتابًا تَقْرؤُهُ نائِمًا ويَقْظانًا))، فَمثُل هذا التَّكلفْ لايَنبغي، بل إنّ من تَقصَّد أن يَستَقبِل القِّبلة في قِراءة القُّرآن فقدْ أتى بِبدعة.
-السؤال:
-هُناك سُؤالان فيما يَتعلقُ في فَضيلَة الصَّلاة في المسْجِد الحَّرام؛ هل هو يَختصُّ في الصلاة المفروضة أم يَتعدَّى إلى النَّافِلة؟
-الجواب:
الظَّاهر كما يَقولُ بعضُ أهل العِّلم؛ أن التَّضعيفَ بمئَة ألف لكلِّ صَلاة، فَإنّ النَّبي-صلى الله عليه وسلم – أطلَق التَّضعيف بِأنّ صَّلاةً في المسجِد الحَّرام بِمئَة ألف صلاة، فَنزَع بعضُ أهل العِّلم منْ ذلِك أنّ التَّضعيف بِمئة ألف في الفَّريضَة والنَّافلة وهُو ظاهِر الحَّديث.
هناكَ أكثر منْ سؤال ولكن حتى نَكسِب الوقت نرجعها.
-قالَ الله-جلَّ وعلا-:}فَاذْكُروني أذْكُركُم واشْكُروا لي ولاتَكْفُرونْ يَأيُّها الذَّين آمَنوا اسْتَعينوا بالصَّبر والصَّلاة إنَّ الله معَ الصَّابِرينْ{ ]البقرة :153[: والاسْتِعانَه بالصَّبرِ؛ أن يَستعينَ العَّبد بِعبادَتِه لربِه بالصَّبر والصَّلاة، وأعظَمُ الصَّبر عِند أول المصيبَة، وقدْ ثَبت في صحيح البُّخاري أنّ النَّبي-صلى الله عليه وسلم-مرَّ على إمرأةٍ تَبكي عِند قَبرْ فقالَ: ((إتقي الله واصْبِري فَقالت: إلَيْك عَني فَإنَّك لم تُصبْ بِمصيبَتي ولمْ تَعرفْ، فانْصرفَ وتَركَها فأخْبَروها بأنَّهُ النَّبي-صلى الله عليه وسلم-، فأتَتْ فلَم تَجِد عِنْدهُ بَّوابينْ فَقالتْ:لم أَعرِفِك فَقالَ: إنَّما الصَّبر عِنْدَ الصَّدمةِ الأولى)).
وقدْ جاءَ عنْ عبدالرحمن بن زيْد بن أسْلم وعن جَماعَة منْ أهلِ العِّلم قالوا: "الصَّبرُ صَبْران؛ صَبْرٌ على ما يُرضي الله منْ أعمالِ البِّر، وصبْرٌ على مايَكرهُ الله منْ أعمال المعاصي".
الصبرُّ صَبْرَان:صبرٌ على ما يُرْضِب الله من أعمال البِرِّ، وصبرٌ على ما يكره الله من أعمال المعاصي. فالإنسان بين صبرين:صبرٌ على فِعْلِ الطاعة وصبرٌ على ترك المعصية.
وجاء في هذا:}اسْتَعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاةِ{ ]البقرة:153[، أنّ رجُلًا من أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلّم-كما صَحَّحَ الحديثَ الإمامُ الألباني: ((أتى أهلَهُ فقال لهم: هل عندكم طعام؟ فقالت: لا والله ما عندنا شيئ فخَرَجَ الرَجُل، فقامت المرأةُ تُصَلِّي وإذا بالطَحِينِ والحُبُوب تَخْرُجُ في الرَحَى وتطْحنُ وتزيد وتزيد، فرأت المرأة هذا ففزِعَت فأمسكتها لما كَثُرَ الخير، فجاء الرَجُل فرأى المنْظَر هذا فأتى النبيَّ-صلى الله عليه وسلّم-فأخْبَرَه، فقال-عليه الصلاة والسلام-:أمّا إنها لو تركتها لطَحَنَتْ إلى يوم القيامة)).
فهكذا كانوا كما أّدَّبَهُم الله-عزَّ وجلّ-:}اسْتَعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللهَ مَعَ الصَّبِرينَ ولَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ{، وفي سورةِ آل عمران:169}ولَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا{ فهناك قال}أمواتًا{ وهنا قال}ولَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ{،
ووجهُ الإعراب هنا: أنّ قوله}ولَا تَقُولُوا{ ال"لَا" للنهي، وهي ناهيةٌ جازِمَة. و}تَقُولُوا{ فعل مضارع مجزوم ب"لا" الناهية بحذف النون لأنّه من الأمثال الخمسة، وأَمْوَاتٌ: خبرٌ لمبتدئٍ محذوف، ولا تقولوا هُم أمواتٌ، فأَمْوَاتٌ هُنا خبر لمبتدئٍ محذوف تقديره "هُم". والجملةُ الإسمية من المبتدئِ المحذوف والخَبَر في محل نَصْب مَقُولْ القَول، أي لا تقولوا هذا القول، فالمبتدأ والخَبَر في مَحِل نَصْب مَقُولِ القَول.
وأما هُناك}ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا{ فهُناك مفعولٌ به لِـتَحْسَبَنَّ.
-قال اللهُ-جلَّ وعلا-:}ولَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَا تَشْعُرُون{ وحياة هؤلاء الشهداء هي كما جاء في الحديث الصحيح؛ أنّ الله-سبحانه وتعالى-جَعَل أرواحهُم في أجوافِ طَيْرٍ خُضْر، تَسْرَحُ في الجَنِّةِ وعلى قناديلَ في الجَنَّةِ يأتيها رزقها غُدْوَةً وعَشِيَّة.
-قال الله-جلَّ وعلا-:}وَلَكِن لَا تَشْعُرُون{: لا نشعُرُ بحياةِ هؤلاء الشُهَدَاء عند ربنا-عزَّ وجل-في حياتهم الغيبية.
-ثمّ قال الله-جلَّ وعلا-:}وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَئٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مَنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَابِرينَ{: ومن الجوع الذي يبتلي الله-عز وجل-به عبادهُ؛ جوع الصوم، كما جاء في صحيح البخاري؛ (( كُلُّ عَملِ ابنَ آدم لَهُ إلاَّ الصّوم فإنّهُ لي وأنَا أَجزي بِهِ، يِدعُ طِعامُهُ وشَرابُهُ وشَهوتَهُ مِن أجلِي))، فالصوم من أجلِّ وأعظم العبادات التي يأجُرُ الله-عز وجل-عليها عباده، يدع طعامه وشرابه وشهوتهُ من أجلي.
-قال الله-جلّ وعلا-:}وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٥﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{: وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أمِّ سلمة-رضي الله عنها-زوج النبي-عليه الصلاة والسلام- قالت: كنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن أُصِيبَ بِمصيبةٍ فَقَال كَمَا أَمَرهُ الله؛ إِنّا للهِ وِإنّا إليهِ رَاجِعُون، اللَّهُم أجِرْني فِي مُصِيبَتي وأخْلِفْ لِي خيرًا منهاُ، إلاّ أبْدَلهُ الله خيرًا منها))، قالت فلمّا مات أبو سلمة قلت: "ومن خيرٌ من أبي سلمة" !! أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قالت: "ثمّ إنّي قلتها، فبعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حَاطِبة بن أبي بَلتَعَة بعدها ليخطبني، فأبدلني الله؛ رسول الله خيرًا من أبي سلمة"، فهذا يدلُّ على عظيم هذه الكلمة العظيمة "إنا لله وإنا إليه راجعون" سِيَّما في أول المصيبة، فهذا وعدٌ من النبي-صلى الله عليه وسلم-وخبر حقٍّ وصدق، إذا أصاب الإنسان مصيبة يقول: ((إِنّا للهِ وِإنّا إليهِ رَاجِعُون، اللَّهُم أجِرْني فِي مُصِيبَتي وأخْلِفْ لِي خيرًا منهاُ)) إلاّ تحقق أنّ الله سيُخلِف له خيرًا منها.
-قال الله-جلّ وعلا-:}الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿١٥٦﴾ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {والله أعلم بِمُراد كلامهِ، جزاكم الله خيرا.