بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
نستأنف الدرس في تفسير سورة البقرة في يومنا السادس عشر من رمضان لسنة خمس وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية مع شيخنا الفاضل خالد بن عبد الرحمن –حفظه الله تعالى- و وفقه وسدده ونفعنا الله –تبارك وتعالى- بعلمه.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه} إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٥٨﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴿١٥٩﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٠﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿١٦١﴾ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿١٦٢﴾ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٣﴾ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }[البقرة:١٦٤]
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد وصلنا إلى قوله - تبارك وتعالى-: } إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ { وأصل الصفا كما يقول الإمام الطبري –رحمه الله- هو الصخرة الملساء، فتسمى بالصفا في لغة العرب، والمروة هي الحصيات الصغار، الحصو الصغير فيسمى في لغة العرب مروة.
أما المقصود هنا بالصفا والمروة فهما الجبلان المعروفان في موسم الحج وأن الصفا والمروة السعي بينهما بين الصفا والمروة من شعائر الله التي شرعها الله – عزّ وجل - لعباده في أداء الحج أو العمرة، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عروة – رحمه الله - أنه أتى إلى أم المؤمنين عائشة فقال لها: ((أرأيتِ قَوْلَ اللهِ تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا {فو اللهِ ما على أَحَدٍ جُنَاحٌ أن لا يطوفَ بالصَّفا والمروةِ ، يعني أن عروة ظنّ أن الآية تنفي وجوب السعي بين الصفا والمروة، فاستثبت من أمنا عائشة على هذا الفهم، فقالت له: قالت : بَئْسَ ما قلتَ يا ابنَ أختي ، إنَّ هذهِ لو كانت كَمَا أَوَّلْتَهَا عليهِ ، كانت "لا جُنَاحَ عليِه أن لا يَتَطَوَّفَ بهما " ولكنَّها أُنْزِلَتْ في الأنصارِ ، كانواْ قبلَ أن يُسَلِّمُواْ ، يُهِلُّونَ لمَنَاةَ الطاغيةَ ، التي كانواْ يعبدونها عندَ المشلَلِ ، فكان من أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أن يطوفَ بالصَّفا والمروةِ ، فلمَّا أسلمواْ ، سألواْ رسولَ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - عن ذلكَ ، قالواْ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّا كُنَّا نتحرَّجُ أن نطوفَ بينَ الصَّفا والمروةِ ، فأنزَلَ اللهُ تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ {الآيةُ.
قالت عائشةُ - رضيَ اللهُ عنها -: وقد سَنَّ رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - الطوافَ بينهما فليس لِأَحَدٍ أن يترُكَ الطوافَ بينهما)).
المصدر :صحيح البخاري - الجزء أو الصفحة:1643
وقد جاء في الصحيحين أيضًا من حديث أنس - رضي الله عنه - أن الأنصار كانوا يكرهون السعي بين الصفا والمروة لأنه كان من فعلهم في الجاهلية، فنزل قوله تعالى:{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ } فالمقصود أن قول الله - جل وعلا - { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ }[البقرة: ١٥٨] هو رفعٌ لما كانوا يتوهمونه، أنهم في الجاهلية كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وكان هذا من فعل أهل الجاهلية، يتعبدون لأصنامهم مع شركهم، فلما جاء الإسلام بالسعي بين الصفا والمروة، وأن تلك العبادة تكون مقرونةً بتوحيد الله، فكرهوا أن يفعلوا ذلك إذ كانوا يفعلون مثله في الجاهلية مع شركهم، فجاء نفي الحرج لذلك، وقد اختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة، فقال بعض أهل العلم: السعي بين الصفا والمروة ركنٌ فمن ترك السعي بين الصفا والمروة بطل حجه.
وقال بعض أهل العلم: السعي بينهما واجب فمن تركه صح حجه وصحت عمرته وعليه الإثم بترك السعي بين الصفا والمروة وعليه دم، عِوضًا عن ما ترك من السعي الواجب.
وقال بعض أهل العلم: السعي بين الصفا والمروة مستحب، فلا شيء على من ترك السعي بينهما.
وقد أخرج الإمام أحمد في المسند كما صححه الإمام الألباني وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى بين الصفا والمروة، قال: حتى إن إزاره ليلتف حول رجليه من شدة السعي وهو يقول لأصحابه ((اِسْعُوا فَإِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْي)) فهذا الحديث مع غيره مِن الأدلة كقوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم لما سعى بين الصفا والمروة قال : ((لِتأْخذوا مناسكَكم (( المصدر:صحيح مسلم- الجزء أو الصفحة1297:
فكل ذلك دليل على أن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ لا بُدّ منه من واجبات الحج أو من واجبات العمرة.
قال الله -عز وجل-: {﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٥٨﴾} [البقرة: ١٥٨ ] . هذه الآية في قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} ذكر جماعة من السلف ما المقصود بالتطوع هنا؟ قالوا: هو زيادة السعي بين الصَّفا والمروة وذلك لا يكون إلا بتكرار الحج والعمرة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((تابعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديدِ)) المصدر:صحيح الترمذي الجزء أو الصفحة: 810
فالمتابعة بين الصفا والمروة يحصل فيها تكرار السعي بين الصَّفا والمروة بتكرار العُمر، وتكرار الحجج فهذا هو المقصود عند جماعة من أهل العلم {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ١٥٨]
{﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴿١٥٩﴾} [البقرة: ١٥٩] والمراد بهذا هو ما فعل اليهود من كتمانهم الآيات والبينات الدالة على صدق النبي- صلى الله عليه وسلم- كما تقدم قبل ذلك {﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴿١٤٦﴾} [ البقرة: ١٤٦ ] وقد جاء في الصحيحين من حديث أو عند الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة –رضى الله عنه- أنه قال: ((ولولا آيتانِ في كتابِ اللهِ ما حدثتُ حديثًا، ثم يتلو : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ- إلى قوله -الرَّحِيمُ )) المصدر:صحيح البخاري- الجزء أو الصفحة118: الآية
يقول أبو هريرة: لولا هذه الآية لكتمتُ علمي، وما حدّثتُ بحديثٍ قط، لكنه منعه من ذلك ما شدّد الله - عزّ وجل- فيه من كتم العلم، وقد أخرج الإمام أحمد في المسند وحسّنه الإمام الألباني وغيره أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن كتَم عِلْمَا، وفي رواية: ((مَن سُئِلَ عن عِلمٍ فَكَتمَهُ أُلْجِمَ بلجامٍ مِن نارٍ يومَ القيامةِ)) المصدر :مسند أحمد - الجزء أو الصفحة15/194 :
إذاً فهذه الآية وإن كان المقصودٌ منها ابتداءً وسياق الآيات أنها في اليهود ولكن العلماء يقولون العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب فعموم اللفظ ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ فكلُ كاتمٍ لعلم محتاجٌ إليه الناس، فهو آثم، ومستحقٌ للعقاب، ومستحقٌ للعنة لأنه كتم شرعاً أُمر بأن يُظهره، فصاحبُ العلم ليس له خيار بأن يَبُثَّ علمه أو يكتمه سيما إذا لم يقم بهذا غيره، وأما إذا قام بهذا غيره، فإنه كان السلف يتورعون من مسائل العلم ومن الفتوى، يقول: "أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين كلهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سُئل عن مسألة يود لو أن أخاه قد كفاه".
التسارع في الفتوى، والتسارع في التصدر في العلم؛ هذا لم يكن عليه السلف الصالح، ولذلك لما قيل لبعض السلف، ويقال أنه الزهري: ألا تجلس إلى اسطوانة في المسجد فتُحدّث، فقال: وما عندي حتى أحدِّث الناس!
وأما إذا احتيج إليه فإنه لا يسعه أن يكتم العلم، بل واجب عليه أن يظهر ما عنده من العلم، وقد ذكر الإمام الشاطبي في مسألة كتم العلم بابًا مفيدًا، وقال: ( إذا تورع العبد، وخشي إن أظهر أو تكلم في مسائل العلم أن يدخل عليه ما يدخل على الإنسان من العُجب، والغرور، وشهوة النفس، فهل يترك بث العلم؟، فقال: لا، لا سيما إذا احتيج إليه) قال : ( فلا يجوز أن يُترك الواجب الشرعي خشية ما يمكن أن يعرض للإنسان) ثم ذكر الشاطبي – رحمه الله - قول الله :{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}[التوبة: ٤٩ ] فقال: هذا رجل ترك الجهاد في سبيل الله وقال إني أخشى أن أفتن بنساء بني الأصفر فأذن لي في ترك الجهاد، قال الشاطبي: ( فكانت الفتنة بتركه الأمر الواجب).
فالمقصود أن هذه الآية استدل بها أبو هريرة، وغيره من علماء السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف الصالح على تحريم كتم العلم إذا احتيج إليه.
قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ} [ البقرة: ١٥٩] فما أنزله الله بينات وهدى، بيّنات: أي أحكام ودلائل ظاهرة لا لبس فيها ولا خفاء
والهُدى: من تمسك ببينات الله وبآيات الله صار مصيره إلى الهداية، فقرن الله – جلّ وعلا - بين البينات والهدى.
﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾إذًا ما هو العلم الذي لا يجوز كتمه؟
العلم هو علم الشرع، إذًا العالم ليس له أن يتكلم بغير براهين وأدلة، لأن العالم من حيث هو بشر يُصيب ويُخطئ ويعلم ويجهل، وإنما العالم يتكلم في مسائل العلم بما جاء في الكتاب، بما بيّنه الله للناس في الكتاب لا أنه يتكلم من تلقاء نفسه، فإذا تكلم من تلقاء نفسه كان عُرضة للخطأ، لذلك لا يجوز أن يُترك ما دلّ عليه الكتاب والسُّنة لقول عالم من العلماء، لأن الحجة فيما جاء في الكتاب والسُّنه لا الحجة في أقوال الرجال، ولذلك قال الإمام مالك – رحمه الله –: "ما منا أحد إلا ردّ ورُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ".
قال الله – جلّ وعلا -: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴿١٥٩﴾ {وسبق الكلام في معنى اللعنة، وأن اللعنة الأصل أنها الطرد من رحمة الله، إلا أن اللعنة لعنتان: لعنةٌ للكافر بأن يُطرد من رحمة الله، فيخلد في النار، ولعنة للمسلم الذي أتى بمعصية فيكون ملعونًا فيُلعن، ويكون مستحقًا للعذاب ما لم يعفو الله عنه، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لعن شارب الخمر ولعن آكل الربا، وكل هؤلاء من المسلمين فانتبه لهذا حتى لا تسلك مسلك الخوارج، الخوارج لا يُفرِّقون، يقولون الكافر ملعون، وصاحب الكبيرة ملعون، وكلاهما مُخلّدٌ في النار، فلذلك يستحلّون دماء المسلمين، إذا أتى المسلم بمعصية عند الخوارج صار حلال الدم، لذلك يقولون لعن الشرع الزاني، ولعن شارب الخمر، ولعن آكل الربا فهم كفار، ولذلك انظر ما جاء في صحيح البخاري: أن رجلًا من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يشرب الخمر، وكان قد أُتِيَ به إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- مرات، فجيء به ذات يوم وقد شرب الخمر، فقال – صلى الله عليه وسلم-: ((اضربوه، قال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بيده، حتى قال رجل من القوم: لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال –صلى الله عليه وسلم-: لا تلعنوه إنه يحب الله ورسوله)) فهذا شارب الخمر ولكن لم تقم عليه اللَّعنة لِما وُجِد من المانع من قيامها عليه، فهو مع معصيته، ومع شُربه للخمر ولكنه ثبت الإيمان في قلبه، وأنه يُحب الله ورسوله، فمنعهم أن يلعنوه، فانتبه إلى هذا التَّفريق بين لعن الكافر، وبين لعن المسلم، وأن لعن المسلم لا يستلزم تكفيره، ولا يقول ذلك إلا الخوارج، قال الله – جلَّ وعلا-: ﴿أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: ١٥٩] وقوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ قد روى الطبريُّ بإسناد صحيح وغيره عن قتادة، قال: اللّاعنون قال: هم المؤمنون، ففيه مشروعية لعن المؤمن للكافر كما جاء في الصحيح: لعن، النبي-صلى الله عليه وسلم-يقول:
((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))، وقد رخّص بعض أهل العلم ومنع آخرون من لعن المسلم المعيَّن إذا أتى بما دلّ عليه الشرع أنه مستحقٌ للعنة فيه، فرخص في هذا بعض أهل العلم، واحتجوا بما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في أن رجلًا من أصحابه أتى النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال:(( يا رسولَ اللهِ ! إِنَّ لي جَارً يُؤْذِينِي ، فقال: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ ( عفش بيتك ) إلى الطَّرِيقِ فانطلقَ فَأَخْرِجَ مَتَاعَهُ، فَاجتمعَ الناسُ عليهِ، فَقَالوا: ما شأنُكَ؟ قال: لي جَارٌ يُؤْذِينِي، فذكرْتُ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ و سلَّمَ فقال: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إلى الطَّرِيقِ فَجَعَلوا يقولونَ: اللهمَّ ! العنهُ ، اللهمَّ ! اخْزِهِ، فَبلغَهُ فأتاهُ فقال: ارْجِعْ إلى منزلِكَ، فوَ اللهِ ! لا أُؤْذِيكَ))
المصدر: صحيح الأدب المفرد - الجزء أو الصفحة92
قال الله-جلّ وعلا-:}أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴿١٥٩﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا{ ]البقرة:١٦٠] تقدمت الآية في من يكتم العلم، فحين يكتم الإنسان العلم فإن الناس يضلون، لأنه لا يوجد من يعلمهم، وهذا كتم العلم فترتب على كتمان العلم إضلال الناس، فأراد أن يتوب، هذا الذي كتم العلم تنبَّه فأراد أن يتوب، فما هي شروط توبته؟ بعد أن تسبب بكتمان العلم بأن أضل الناس عن طاعة ربهم، ووقع الناس في المعاصي، ووقع الناس في البدع؛ بسبب هذا الذي كتم العلم إما رغبةً أو رهبة، لأن كتم العلم إما أن يكون رغبة، يرغبُ في مكانته عند الناس، لا يريد الناس تنفر منه فيكتم، أو رهبة أو أن يخاف ضررهم، فإذا أراد هذا الكاتم أن يتوب، فما الشروط التي يجب أن يقوم بها ؟
قال: }إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا{يتوب إلى الله بأن يستغفر الله ويندم على ما كتم، وقد ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال فيما صحح الإمام الألباني: ((الندمُ توبةٌ(( المصدر:صحيح ابن ماجه- الجزء أو الصفحة: 3448
ثم ماذا ؟ }وَأَصْلَحُوا{ أصلحوا أعمالهم، وأصلحوا ما أفسدوه من دين الناس، يُبيِّن للناس ويُصلح ما أفسده من أمر دين الناس، فيُبيّن الإصلاح الذي بسببه صار الواقع عوضًا عنه الفساد.
}إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا{ يُبيِّنُ ما كتم، ويُبيِّنُ بطلان ما كان يقوله قبل، كنت أقول كذا وأخطأت، والصحيح كذا والحجة كذا، أمّا أن يتوب ثمّ لا يترك البيان فهذه التوبة لا تُقبل لأنها لم تستوفي شروطها فلابُدّ أن يتوب وأن يُبيّن ما أخطأ فيه وما أضل الناس فيه، قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٠﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ( كفر واستمر على الكفر ) أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ } وأما إذا كفر وتاب قبل أن يموت، قال تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال :٣٨ ] فإذا انتهى الكافر وتاب من كفره وأسلم فإنه يغفر له ما قد سلف، وأما إذا مات على الكفر فإنه لا يغفر للكافر،
{ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: ٤٨]
قال الله - جلّ وعلا - : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿١٦١﴾ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ } أي خالدين في النار، وقيل خالدين في اللعنة المستلزمة للنار، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:((يُقالُ لأهلِ الجنَّةِ:يا أهلَ الجنَّةِ خلودٌ لا موتَ ،ولأهلِ النَّارِ : يا أهلَ النَّارِ خلودٌ لا
موتَ)) المصدر:صحيح البخاري- الجزء أو الصفحة6545 :
قال الله –عزّ وجل- {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿١٦٢﴾} لا يخفف العذاب نعوذ بالله، {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} ولا هم يمهلون ولا يؤخرون، ثم قال الله - جلّ وعلا -: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ} فالله - جلّ وعلا - هو المعبود بحق دون سواه، وهذا هو أصل التوحيد، وإلهكم إله واحد وتأمل يقول:" وإلهكم " وعدل عن ربكم، لم يقل "وربكم ربٌّ واحد" وإنما قال: "وإلهكم إله واحد" وهذا فيه البيان أن كثيرًا من الكفار لم ينازع في ربوبية الله، وإنما المنازعة في الأغلب والأعم بين الأنبياء وأقوامهم في الألوهية وليس في الربوبية، فاليهود والنصارى يعلمون أن الله إله ويعبدون الله لا ينكرون عبادة الله، ولكنهم يشركون في ألوهية الله فلم يكن نزاع كثير من الكفار مع الأنبياء والرسل في الربوبية بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، حتى المشركون يعلمون ذلك ويثبتون أن الله هو الخالق وأن الله هو المحيي وأن الله هو المميت، ولكن النزاع في مسألة الألوهية، في إفراد الله - جلّ وعلا - بالعبادة وعدم صرف شيء منها لغيره، هذا هو النزاع، لذلك كانوا يقولون:{ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: ٥ ] لذلك كثيرٌ من الجُهّال، من الدُّعاة والجماعات تجد أن دعوتهم قائمة على توحيد الربوبية، يعظمون الله - جلّ وعلا - في ربوبيته، الله هو الخالق، الله هو المحيي، الله هو المميت، ويكون جُلّ دعوتهم على هذا الجانب ولا شك أنه حق ولكن الباطل أنهم يتركون الأصل الأول العظيم وهو ألوهية الله - جلّ وعلا - ولذلك تجد كثير من العُبّاد يعبد الله وعنده الجد والاجتهاد في العبادة ولكنه يُنازع ربه في توحيد الأُلوهية، فتجد يذبح لغير الله، يطوف بالقبور، يتمسّح بأصحابها، يسأل من أصحابها المدد، يسأل من أصحابها، يدّعي ولايتهم لله، فيسألهم أن يشفوا مريضه، أن يُفرّجوا كربه، يطوف بالقبور، يذبح لها، وهو مجتهد في توحيد الربوبية وعنده يقين بأن الله هو الخالق الرازق، ولكنه نازع ربه في توحيد الألوهية بسبب جهله، لذلك فمما ينبغي أن يُركّز عليه في دعوة الناس، أن يُعلِّم الناس توحيد الألوهية، وأن كل عبادة قلّت أو كثُرت لا يتوجه بها المؤمن المسلم إلا إلى الله، فإن وجهها لغير الله كأن يذبح لغير الله، كأن يستغيث بميت وما أشبه ذلك، كأن يطوف بالقبور مُعتقدًا أن أصحابها ينفعون أو يضرون فقد كفر بالله وأتى بالكفر المخرج له عن الإسلام، إلا إن كان جاهلًا فيُعذر حتى يُعلَّم وحتى تُقام عليه الحُجة، كذاك الرجل الذي أخرج حديثه البخاري ومسلم في الصحيحين أن رجلًا حين حضرته الوفاة (( قال لبنيه :أيُّ أبٍ كنتُ لكم ؟ قالوا : خيرَ أبٍ ، قال : فإنه لم يبتَئِرْ ، أو لم يبتَئِزْ عند اللهِ خيرًا ، وإن يقْدِرِ اللهُ عليه يُعذِّبْه ، فانظروا إذا متُّ فأَحْرقوني ، حتى إذا صرتُ فحمًا فاسحَقوني ، أو قال : فاسحَكوني ، فإذا كان يومُ ريحٍ عاصفٍ فأَذْروني فيها ، فقال نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : فأخذ مواثيقَهم على ذلك ورَبِّي ، ففعلوا ثم أَذْرَوْه في يومٍ عاصفٍ ، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ : كُنْ ، فإذا هو رجلٌ قائمٌ ، قال اللهُ : أيْ عبدي ما حملك على أن فعلتَ ما فعلتَ ؟ قال : مخافتُك ، أو : فرَقٌ منك ، قال : فما تلافاه أنرَحِمه عندها . وقال مرةً أخرى: فما تلافاه غيرها)) المصدر:صحيح البخاري - الجزء أو الصفحة7508:
ظن الجاهل أنه حين يُحرّق أن الله سيعجز أن يبعثه؛ لأنه صار رمادًا وانتهى، فبعثه الله فسأله ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب، قال: فتلافاه برحمته، يعني هذا اعتقد الكفر ونسب العجز إلى الله، وظن أنه حين يُحرّق أن الله لن يقدر على أن يبعثه، لكنه جاهل لم يحمله على هذا الفعل المعاندة والتكذيب، ولكن حمله على ذلك خوفه من الله، وأتى بالكفر ولكن الله عذره لجهله بهذا. قال الله -جلّ وعلا-: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٣﴾}[البقرة]
بعد أن ذكر العذاب قال:{خَالِدِينَ فِيهَا} ذكر الرحمة فرغّب ورهّب وخوّف عباده وتحنن على عباده، فمن قام بالتوحيد فإن الله –جلّ وعلا- يرحمه بفضله وإحسانه، وقد تكلم أهل العلم على الفرق بين هذين الاسمين العظيمين، ما الفرق بينهما، الرحمن والرحيم؟ وحاصل كلام بعض المحققين من أهل العلم وبعض المفسرين أن الرحمن على صيغة فعلان، يُقال: غضبان: ممتلئ غضبا، ريّان: ممتلئ ريًّا، جوعان: شديد الجوع، عطشان: شديد العطش.
قال هؤلاء العلماء: فالرحمن صيغة مبالغة تدل على الكثرة، كجوعان وريّان وعطشان وغضبان إلى آخره، والرحيم قالوا: على وزن فعيل، كريم رحيم حليم إلى آخره، وهذه دلالتها على الثبوت والاستمرار، فيصير المعنى أن الله – جلّ وعلا - كثير الرحمة، عظيم الرحمة، وهو مع كثرة رحمته وعِظم رحمته فهو مستمرها غير قاطعها، فهو رحمن رحيم كما جاء في صحيح مسلم أن النبي – صلى اله عليه وسلم - قال: (( إن للهِ مائةَ رحمةٍ أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِ والإنسِ والبهائمِ والهوامِ فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطفُ الوحشُ على ولدِها وأخّر اللهُ تسعًا وتسعين رحمةً يرحمُ بها عبادَه يومَ القيامةِ)) المصدر:صحيح مسلم - الجزء أو الصفحة: 2752
يعني منذ أن خلق الله البشر من أبينا آدم إلى أن تنتهي الدنيا وما جُعِل في الرحمة من أول الخلق إلى أن يفنى الخلق، كل ذلك جزءٌ من مائة جزء من رحمة الله، وأدّخر عنده تسعة وتسعين جزءًا يرحم بها خلقه يوم القيامة، فهو رحمن رحيم كثير الرحمة، مستمرها غير مقطوعة فضلًا منه ونعمة.
المقدم: جزاك الله خيرًا شيخنا
السؤال: هل تمت مناسبة بين إدخال آيات في الكلام على الصفا والمروة وبين ما تقدمها من الآيات وما بعدها، جزاكم الله خيرًا؟
الجواب: هذا العلم اعتنى به جماعة من العلماء، وأنك لا تجد آية من كتاب الله بالاستقراء والتتبع والتدبر إلا وجدتها متعلقة في معناها بما قبلها وما بعدها، فسؤال الشيخ علي –حفظه الله وسددنا الله وإياه- أن الله –سبحانه وتعالى- ذكر الصفا والمروة وقبل ذلك تكلم عن أحكام الجهاد {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ} [البقرة: ١٥٤] ثم بعد ذلك تكلم عما يُصيب المسلم من المصائب، وأمر الله عباده بالصبر، ثم بعد ذلك ذكر الحج، ثم بعد ذلك ذكر كتم العلم، وهذا غاية الكمال في تناسب الآيات بعضها مع بعض، فإن الجهاد فرضٌ من فرائض الإسلام، ومن أجلّ الأعمال، وبينه وبين الحج مناسبة، ولذلك جاء في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال لما سئل: نرى الجهاد أفضل الأعمال، جاءت النساء تشكو، نرى الجهاد أفضل الأعمال كما عند البخاري فقال: ((جِهادُكُنَّ الحجُّ)) المصدر:صحيح البخاري- الجزء أو الصفحة 2875 :
فالحج والجهاد في سبيل الله يلتقيان بأن كلًا منهما يدخل في باب الجهاد وفي باب الأعمال والمجاهدة التي تستدعي صبرا، فذكر الله الجهاد، ثم ذكر الله الصبر، ثم أتى الله – جلّ وعلا – بركن الحج الذي هو فيه الجهاد من جهة وفيه الصبر من جهة أخرى، كما جاء في صحيح البخاري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة حين أدَّت منسكها، قال: ((أجرك على قدر نصبك)) فتناسب ذكر الجهاد مع ذكر الصبر على المصائب، وأعقبه ذكر الحج والسعي بين الصفا والمروة، ثم أعقبه العلم، فإن الحج والجهاد لا يكون لهما الفضل إلا إذا أُدِّيا بعلم شرعي الذي بيَّنه الله في كتابه من أحكام المناسك ومن أحكام الجهاد، ثم رتَّب بعد ذلك كتم العلم، ثم ذكر بعد ذلك أن الأصل فيمن يكتمون العلم هم الكفار، فأتت الآيات متناسبة غاية التناسب والجمال والارتباط ببعضها البعض والله أعلم بمراده.
يقول الله – عزّ وجل -:{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٣﴾ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...} إلى آخر ما ذكر من الآيات، وفي هذا استدلال بتوحيد الربوبية على إلزام الخلق بتوحيد الألوهية، فهناك تلازم بين الربوبية والألوهية {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿١﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿٢﴾ إِلَـٰهِ النَّاسِ ﴿٣﴾} [الناس: ١- ٢- ٣ ] قدَّم الربوبية لأن كثيرًا من الأمم يُقرُّ بها بأن الله الخالق الرازق المحيي المميت، فيلزمهم إذا أقرُّوا بذلك أن يُفردوا ربهم بتوحيد الألوهية، لذلك انظر كيف قرن النبي – صلى الله عليه وسلم – بين ملازمة الربوبية والألوهية لله، ففي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سُئل: ((أيُّ الذنبِ أعظمُ عندَ اللهِ ؟ قال: أنْ تجعل للهِ نِدًّا وهو خلقَك )).
المصدر :صحيح البخاري- الجزء أو الصفحة:4477
كيف تجعل لله ندًا فتُشرك في توحيد الألوهية مع أن الله هو المستحق أن يُفرَد بالألوهية لما أنعم عليك من صفة الربوبية، ما أوصل لك من الخير بصفة ربوبيته – جلّ وعلا - ((أيُّ الذنبِ أعظمُ عندَ اللهِ ؟ قال: أنْ تجعل للهِ نِدًّا وهو خلقَك)) هذا هو الشرك وعدم التسليم بألوهية الله فتعبد الله وتعبد معه غيره، فتكون قد هدمت توحيد الألوهية مع أنك تعلم أن الله هو الذي خلقك ولم يخلقك ذاك الند الذي جعلته لله، قال: ((أيُّ الذنبِ أعظمُ عندَ اللهِ ؟ قال: أنْ تجعل للهِ نِدًّا وهو خلقَك)) لذلك يحتج الله على هؤلاء الذين يعبدون معه آلهة أخرى بأن هذه الآلهة لا تملك شيئًا من أمر حياتهم ولا خلقهم ولا إحيائهم ولا إماتتهم ولا أرزاقهم، يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}[البقرة: ١٦٤] اختلاف الليل والنهار ينتج عن الشمس والقمر، يقول الله –عز وجل- : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: ٤٠] أفلاك أجرام أوزانها لا يعلمها إلا الله معلقة هكذا في الهواء لو جئنا هنا في هذا المنطقة فرأينا حجرًا قد علق في الهواء لاجتمعت الدنيا كلها ليحللوا هذه الظاهرة، كيف حجر معلق؟! ولكن العادة تجعل الإنسان يغفل عن التدبر، العادة تصرفك عن التدبر وهذا مما ينبغي أن يتعقل الإنسان أن هذه الخوارق التي تدل على عظمة شأن ربنا – عزّ وجل- لا ينبغي لك أن تجعل عادتك غالبةً لك على التدبر، قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}﴿البقرة: ١٦٤﴾، كما قال: {إِنَّ اللَّـهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } ﴿فاطر: ٤١﴾ ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } ﴿البقرة: ١٦٤﴾ الفلك إن منع الله الريح كما يقول – عزّ وجل- في منعه وتصريف الريح {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ}﴿الشورى: ٣٣﴾ لو أن الله أمسك الريح يهلك الناس في البحار، وإنما يسخّر الله الريح فتجري السفن بأمر الله- جلّ وعلا- وهي الفلك {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ}﴿الشورى: ٣٣﴾ فهذا من عظيم نعمة الله على عباده، قال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} ﴿البقرة: ١٦٤﴾إلى زمن قريب من خمسين سنة تزيد تقل وكثير من الناس كانت أرزاقهم في البحر، يغوصون، يستخرجون اللؤلؤ ثم يسافرون إلى البلاد البعيدة يبيعونه ويتاجرون فيه، فجعل الله الرزق للعباد في البحر وفي البر، وأجرى الله – عزّ وجل- المنافع للعباد في برهم وبحرهم، قال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } ﴿البقرة: ١٦٤﴾ كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} ﴿الملك: ٣٠﴾ هذا الماء نشربه ولا نشعر بعظم هذه النعمة إن غار الماء وانحبس الماء في الأرض يهلك الناس {وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } ﴿البقرة: ١٦٤﴾ أرض ميتة ينزل عليها ماء فيخرج ثمر، ثم هذا الثمر الذي يخرج يُسقى بماءٍ واحد، {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } [الرعد: ٤] مختلفٌ ألوانه وطعمه ويُسقى بماءٍ واحد، كل ذلك من عظيم صنع الله.
قال الله –جلّ وعلا-: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: ١٦٤] يستعملون عقولهم فيدركون أن الله إله واحد لا إله إلا هو.
(جزاك الله خير، في عندك سؤال ولأ حاجة)
مقدم الدرس: يقول السائل، هذه الأسئلة من درس الأمس
السؤال: يقول: من فاته إحدى ركعتي التراويح، هل يُتمها أو يُسلّم مع الإمام؟
الجواب: إذا أتيت والإمام قد صلى ركعةً من الركعتين، فأدركت معه الركعة الثانية، فلا بُدّ أن تُتم، لأنه لا يُشرع لك أن تُصلي وترا إلا الوتر المعلوم، فإذا ما سلّم قمت وأتيت بالركعة الثانية.
السؤال: يقول السائل: هل الصلاة في مكة عامة بمائة ألف صلاة أم خاصة بالمسجد الحرام؟
الجواب: هذا فيه نزاع بين علمائنا قديمًا وحديثًا، فبعض علمائنا قال أن المائة ألف للمسجد فقط، وقال بعض علمائنا المائة ألف لمكة وللحرم كله، وسبب الخلاف أن الحديث يقول: ((صلاة في المسجد الحرام)) والمسجد الحرام يُطلق تارةً ويُراد به المسجد، ويُطلق المسجد الحرام ويُراد به الحرم كله، فلما صار لفظ المسجد الحرام هو واقعٌ تارةً على المسجد فقط، وتارةً على الحرم كله، فهذا الذي سبّب الاختلاف بين العلماء، والراجح في هذا إن شاء الله هو أن المائة ألف للمسجد فقط، وليس للحرم كله، والحجة على هذا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- عن ميمونه –رضي الله عنها- زوج النبي –صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صلاةٌ في مسجدي هذا –يعني في مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم- صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ ( أو كألفِ صلاةٍ ) فيما سواه من المساجدِ، إلا أن يكون المسجدُ الحرامِ)) المصدر: صحيح مسلم - الجزء أو الصفحة:1394
هذا رواه مسلم من حديث ابن عباس عن ميمونة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ ( أو كألفِ صلاةٍ ) فيما سواه من المساجدِ، إلا أن يكون المسجدُ الحرامِ))
فقوله مسجد الكعبة حصرٌ وقصر على أن المائة ألف لمسجد الكعبة لا لغيره، فهذا هو أظهرُ قولي العلماء في هذه المسألة والله أعلم.
أحسن الله إليكم وبارك في علمكم، وجزاكم الله خيرًا والحمد لله رب العالمين
الشيخ: الله يجزيكم خير، وفق الله الجميع.